شاع في أدبيات التعليم العالي بالمملكة في العقود الأخيرة تصنيف التخصصات الأكاديمية في الجامعات إلى تخصصات «علمية» وأخرى «نظرية»، بحيث تشمل الأولى التخصصات الطبية والهندسية والتقنية والعلوم البحتة، بالإضافة إلى بعض التخصصات الإدارية مثل المحاسبة والمالية (وقد ينسحب التصنيف بحكم الجوار على جميع تخصصات إدارة الأعمال)، في حين حُشرت جميع التخصصات الأخرى تحت تصنيف «النظرية»، بما يشمل اللغة العربية واللغات الأجنبية والترجمة والعلوم الشرعية والتاريخ والجغرافيا والعلوم الاجتماعية، من علم نفس واجتماع وسياسة وخلافه. ولم يقتصر الأمر على مجرد التصنيف للعلوم والتخصصات، ولكن تبعه كذلك وصف المجموعة الأولى عموما باعتبارها متوائمة مع احتياجات سوق العمل ومتطلبات التنمية، وبالتالي فالقبول فيها تنافسي، والدراسة فيها نوعية. بينما وُصمت الأخيرة بالعكس تماما، فهي تخصصات غير مرغوبة، وتتسم مناهجها بالتقليدية، ومقاعدها بالتكدس، والطلب على مخرجاتها بالانحسار. ولعله كان من الممكن التعايش مع هذا التصنيف، وما يترتب عليه من تبعات في عقود سابقة، ولكن في ضوء تطلعات ومستهدفات «رؤية 2030»، فإن هذا الوضع بأكمله في حاجة لمراجعة وتقويم. فمن أهم مكتسبات الرؤية «الاعتراف» بمركزية الثقافة في عملية التحول الوطني، وأهميتها في صناعة التغيير المجتمعي، والصورة العالمية للمملكة من ناحية، والعمل من ناحية أخرى على إحياء ما اندثر من قطاعات «الاقتصاد» الثقافية، وصناعة قطاعات جديدة لم تكن موجودة من قبل، وتجلى ذلك بوضوح في تأسيس الهيئات الوطنية المعنية بعمليات التجديد والابتكار، التي شملت: هيئة الأدب والنشر والترجمة، وهيئة الأزياء، وهيئة الأفلام، وهيئة التراث، وهيئة فنون العمارة والتصميم، وهيئة الفنون البصرية، وهيئة المتاحف، وهيئة المسرح والفنون الأدائية، وهيئة المكتبات، وهيئة الموسيقى، وهيئة فنون الطهي. وباستعراض لما تم إعلانه حتى الآن من إستراتيجيات لهذه الهيئات، والمتوقع استحداثه من فرص عمل لهذه القطاعات، فالحاجة ماسة لتفاعل الجامعات في إعداد الكوادر البشرية المطلوبة في هذه الأسواق الجديدة، بما يتناسب والطبيعة «المختلفة تماما» لهذه القطاعات في هياكلها وحراكها عن طبيعة الإعداد التقليدي في التخصصات «النظرية». لذا، فليس المعني بتفاعل الجامعات مجرد إعادة فتح القبول أو التوسع فيه لدى الكليات والأقسام المعنية، ولكن المطلوب هو عملية «تحول برامجي» شاملة لهذه الأقسام، و«مؤهلات جديدة» في هذه التخصصات، وشراكة إستراتيجية مع الهيئات المستهدفة في التخطيط للبرامج، وتوسيع دائرة مشاركتها في تقديمها، هذا فضلا عن استحداث أقسام أو كيانات جديدة تماما مثل أقسام أو معاهد الموسيقى، والسينما، والمسرح. فالتحول البرامجي - كعنوان أطلقته جامعة الطائف في 2016 على مشروعها في المراجعة الشاملة، وتبنته جامعات أخرى لاحقا، ونفذته بطريقتها، وبما يناسب بيئتها - يشمل مراجعة البرامج الأكاديمية ومقرراتها، وإعادة كتابتها، بما يضمن تكامل مخرجات التعلم بين المقررات، ومضاعفة حصة الجوانب التطبيقية والتدريب الميداني، وإعطاء مساحة أكبر للمقررات المعنية بالمهارات الحياتية، والرقمية، والمهارات الناعمة. فعلى سبيل المثال، ستكون طبيعة برنامج التاريخ – بعد التحول - الذي يستهدف إعداد الكفاءات للعمل في المتاحف الوطنية، أو في تتبع التراث الوطني والمحافظة عليه، أو في صياغة المواد التاريخية في قوالب أدبية أو مسرحية أو فنية، يختلف كثيرا عن برامج التاريخ التقليدية. وعند الحديث عن عمليات التحديث من خلال تقديم «مؤهلات جديدة» في هذه التخصصات، فالمقصود هو عدم اقتصار عملية التجديد على المحتوى، بل أيضا في تقديمه بطرق جديدة، وذلك يشمل استحداث وتفعيل الدرجات العلمية القصيرة، والدرجات العلمية المشتركة أو المتعددة التخصص، فيصبح من الممكن – كما هو ممارس في عدد من الجامعات العالمية - أن يتخرج طالب في تخصص اللغة الإنجليزية كتخصص رئيس، وتخصص فرعي في التسويق أو الإنتاج السينمائي أو التصميم الجرافيكي مثلا، هذا بالإضافة لبرامج الدبلومات، والماجستير التنفيذي كخيارات لإعادة التأهيل. ولضمان فاعلية «التحول البرامجي»، ومناسبة مخرجاته سوق العمل، فمن الضروري أن تتم هذه العمليات ومن البداية بشراكة إستراتيجية مع الهيئات الثقافية المعنية، ومشاركة فاعلة من خبرائها ومستشاريها. هذه المشاركة الفاعلة تتطلب تغييرا في آليات الأقسام العلمية في تصميم وتطوير البرامج، وفي سياسات الجامعات فيما يتعلق باستقطاب المهنيين المتخصصين كأعضاء هيئة تدريس متعاونين، بل وفي معايير الاعتماد الأكاديمي لهذه البرامج الجديدة أو المطورة، فبدلا من الاكتفاء - مثلا - بالسؤال عن نسبة أعضاء هيئة التدريس الحاصلين على الدكتوراه ممن أسهموا في تصميم البرنامج وتنفيذه، يمتد السؤال ليشمل مشاركة المهنيين والحرفيين المتخصصين في تصميمه وتنفيذه. ولذا، فلعله من المناسب في هذه المرحلة استبدال تصنيف «التخصصات الثقافية» بمصطلح التخصصات «النظرية»، لئلا ترث البرامج الجديدة في هذه المجالات أوصاف ومثالب القديمة. كما أنه قد يكون من المفيد تشجيع الجامعات الأهلية على المبادرة بافتتاح برامج في هذه التخصصات الثقافية، تحفيزا للمنافسة والابتكار، والأهم في جميع ذلك – كما في غيره - هو أن تنطلق هذه المبادرات التطويرية من داخل الجامعات، ووفق إمكاناتها المادية والبشرية، وحسب ما يتوافر في مناطقها من فرص ومعطيات، بعيدا عن المركزية في التخطيط والإلزامية في التنفيذ.