هنا سأتناول إيضاح مفهوم «التوجه الأخضر»، والأطراف والممكنات المسؤولة عن تحقيق أهدافه، وصور واقعية تبرز تطبيقات البيئة الخضراء الإيجابية لهذا المفهوم. خلال إعلانه في 14 شعبان 1442، رسم ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، خارطة طريق غير آبهة بالصعب أو المستحيل، لقيادة مستقبل أخضر للمملكة والشرق الأوسط الكبير. هذا المشروع البيئي، الأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط، سيعزز التوجه العالمي البيئي الأخضر «GOING GREEN». تناولت الدراسات الحديثة مفهوم «التوجه البيئي الأخضر» من زوايا بحثية مختلفة، كون مصطلح «أخضر» بات حديث الساعة منذ منتصف التسعينيات الميلادية. وتؤكد الدراسات، التي ركزت على العوامل الداعمة تحقيق أهداف المفهوم البيئي الأخضر، أنه عبارة عن محاولات علمية وتطبيقية حضارية لمحاكاة مفهوم العيش في البيئة الطبيعية البكر أو مماثلة لمفهوم العيش في القرى الريفية، المتسمة بجمال الطبيعة ونقاء الهواء، والخالية تماما من كل ملوثات الحياة. اللافت للنظر أن كلمة «أخضر» لم تعد صفة للبيئة فقط، بل إنها تعدت ذلك، لتشمل جميع المفاهيم الاقتصادية والصناعية والخدمة والإدارية الحديثة، فعلى سبيل المثال هناك الاقتصاد الأخضر (Green Economy)، والصناعة الخضراء (Green Industry)، والتسويق الأخضر (Green Marketing)، حتى إن الدراسات الحديثة خرجت باستحداث فرع جديد لإدارة الموارد البشرية يسمى إدارة الموارد البشرية الخضراء (Green Human Resource Management, GHRM) (Brunner & Norouzi, 2021). هذا التوجه الأخضر نابع أساسا عن المعايير العالمية للأداء المنبثقة عن اتفاقيات العمل الدولية، المعلنة من قِبل منظمة العمل الدولية (International labour Organization, ILO)، التي تحث الدول الأعضاء على تطبيق معايير عمل صديقة للبيئة، لضمان استدامة جودة الحياة في بيئات العمل بهذه الدول. وتعد المملكة من أهم الدول الأعضاء في منظمة العمل الدولية منذ 1975. وقد استند أيضا هذا التوجه إلى مشروع منظمة الأممالمتحدة (UN)، متمثلا في هدفها ال13 للتطوير المستدام - 2030، الذي يدعو الدول الأعضاء إلى اتخاذ كل التدابير العاجلة للتغلب على كثير من مسببات تغير المناخ العالمي Climate Change (UN, 2021). وكون المملكة أحد أهم الدول الأعضاء في هذه المنظمة، ولشعور ولي العهد بالمسؤولية الاجتماعية حيال بيئة المملكة والشرق الأوسط، قال، في إعلان مبادرته العظيمة: «بصفتنا منتجا عالميا رائدا للنفط ندرك تماما نصيبنا من المسؤولية في دفع عجلة مكافحة أزمة المناخ. سنعمل لقيادة الحقبة الخضراء القادمة». فمبادرته ستسهم، بشكل جذري، في إصحاح بيئي شامل على مستوى المملكة والشرق الأوسط، لضمان تحقيق الأهداف العالمية لجودة الحياة، ممثلا في خلق بيئة نقية من التلوث بشتى أشكاله، مما سيسهم في إدارة التغير المناخي العالمي. مبادرة «السعودية الخضراء» هي مشروع إستراتيجي مستدام غير مسبوق على مستوى جنوب غرب قارة آسيا والقارة الإفريقية. في طيات هذه المبادرة عمل جاد وصارم، لاجتثاث كل ما يؤثر على مفردات ومصادر الحياة في المملكة والشرق الأوسط بأسره. لذا، فتحقيق أهداف هذه المبادرة على أرض الواقع، بشكل دراماتيكي سريع، يتطلب في المقام الأول تهيئة الفكر المجتمعي والمؤسسي، لمعرفة الدور المناط بهم، واستيعاب الإجراءات والتنظيمات المحلية والعالمية الخاصة بتنفيذ المبادرة، والانعكاسات الاقتصادية المصاحبة لذلك، إلى جانب التكامل والتعاون البناء بين جميع مؤسسات الدولة بمختلف قطاعاتها؛ وعلى سبيل المثال القطاعات التعليمية، أو الأمنية، أو البلدية، أو الزراعية، أو القطاع البترولي، أو القطاع الإنشائي أو حتى المالي. فمن الجانب المجتمعي، يتوجب على المؤسسات ذات الصلة بناء وبلورة السلوك المعرفي الفردي الصديق للبيئة (Pro-Environmental Knowledge) عبر البرامج التوعوية والتدريبية المكثفة المستمرة. أما الجانب المؤسسي الإنتاجي والخدمي، فعليه مراجعة خططه الإنتاجية، وأساليب إدارة موارده البشرية، لتتماشى مع معايير العمل الإنتاجية الخضراء، وفق برامج زمنية مجدولة، ترقى وطموح هذه المبادرة. فهذه المبادرة ليس كما يعتقد البعض أن البيئة سيتم صبغها بألوان «10 مليارات شجرة» في المملكة فقط خلال العقود القادمة فحسب، بل الأمر سيتعدى إلى ما لا قد يدركه المواطن العادي. هذه المبادرة تعد أحدى الأذرع الإستراتيجية للترجمة الواقعية لمستهدفات الرؤية الوطنية 2030، التي تركز على حماية بيئة المملكة، منادية بمراجعة كل مسببات التلوث، ومعالجتها وفق أحدث التجارب والمعايير العالمية التي جعلت مفهوم «جودة الحياة» واقعا معاشا في الدول المتقدمة بهذا الصدد، بمعنى أن المجتمع السعودي والشرق أوسطي بكل مفرداته الحياتية يجب أن يضاهي مثلا ما وصلت إليه سنغافورة والمملكة المتحدة والولايات المتحدةالأمريكية، حيث إن هذه الدول استفادت من خبراتها البيئة المتراكمة، ومن كل المبادرات والابتكارات البيئية، وكذا من مفرزات الثورة الصناعية الرابعة في عدة مجالات؛ على سبيل المثال لا الحصر، منها: إعادة تهيئة بنيتها التحتية، والبيئية والصناعية، والخدمية والإدارية، وذلك بإحلال هذه التقنيات الحديثة الصديقة للبيئة محل التطبيقات الحضارية التقليدية، حيث استخدمت وسائل الطاقة النظيفة في مصانعها وشوارعها، وحتى في أسلوب هندستها المدنية. من أميز الممكنات الوطنية للمبادرة الخضراء هذه التجربة الحديثة للمملكة في آلية بناء مدينة نيوم (NEOM) الصديقة للبيئة، حيث أكد ولي العهد رئيس مجلس إدارة شركة «نيوم» أن هذه المدينة ستكون «بلا سيارات، ودون شوارع، وبلا تلوث كربوني إطلاقا»، إذ ستكون حقا هذه المدينة «المعجزة الثامنة»، كونها ستكون أفضل مدينة في العالم نظير ما احتوت عليه من أحدث وسائل التقنية العالمية في عملية إنشائها. ومن المسرعات الأخرى لتحقيق أهداف المبادرة الخضراء على مستوى المملكة الموارد البشرية السعودية الشابة المؤهلة، والمتعطشة للإسهام في كل ما يدعم رفع القيمة التنافسية العالمية لوطننا المقدس، حيث أثبت المواطن السعودي بجدارة، في زمن قياسي، أنه قادر على تحقيق كثير من برامج التحول الوطني حتى قبل الوقت المحدد لإنجازها. ناهيك عن الدور المؤسسي المأمول لمختلف القطاعات العامة والخاصة، الذي يمتاز بطموحه وعشقه لمماثلة ما وصل إليه نظراؤه في العالم المتقدم فيما يخص توطين أفضل ممارسات ومعايير العمل العالمية. في الختام، على الرغم من الجزم أن المملكة ستنجز المبادرة الخضراء في القريب العاجل، فإنه قد يتطلع القارئ إلى دراسات علمية، لتعكس الدور الذي تقوم به المؤسسات الخدمية والربحية العاملة في المملكة بمختلف أحجامها، إلى جانب مواردهم البشرية تجاه المبادرة، لمعرفة مدى جاهزيتهم لتحقيق أهداف هذا التوجه الأخضر أو Going Green على المستوى الوطني.