هذا المقال السابع عن كتاب إبراهيم البليهي، الريادة والاستجابة، وعنوان المقال هو أثر الثورة الصناعية. يبحث هذا الكتاب في عوامل التَّغيير التي أدت إلى الانبعاث الأوروبي. لقد قاد الثورة الصناعية اثنان من المخترعين الطليعيين، هما ريتشارد آركرايت مخترع آلة غزل النسيج، وجيمس وات مخترع الآلة البخارية، وقد أتى كلاهما من خارج مؤسسة العلم والتَّعلم، حدث هذا في بريطانيا في القرن الثامن عشر. إن الاتجاه نحو التصنيع قد تفجَّر تفجُّراً تلقائياً بواسطة رائدين استثنائيين، لكن ما كان ممكناً أن ينجحا هذا النجاح الاستثنائي العظيم لو لم تكن البيئة الإنجليزية ملائمة نسبياً لمثل هذا التغيير الجذري، الذي لم يغيِّر إنجلترا وحدها وإنما غيَّرها وغيَّر العالم معها. إن التطور في الحياة البشرية في كافة المجالات يتأسس على قابلية التغيُّر وينهض على التكامل بين الإبداع والاتباع. وهذا ما يؤكد على أهمية التكامل العضوي بين الريادة والاستجابة. من هنا جعل ، إبراهيم البليهي، عنوان كتابه الذي بين يدي هو الريادة والاستجابة. أما قابلية التغيُّر فإنها، عند المؤلف، هي معيار التحضُّر. لقد أدت الثورة الصناعية إلى تغيير في الأوضاع والوسائل وأساليب الإنتاج وتنظيم العمل، وكذلك أدت إلى تغيير في الاهتمامات والتطلعات والتفكير والواقع الاجتماعي والثقافي، وحتى السكان أخذوا يتجمعون من أقاصي الأرض بسرعة لينشئوا المدن، وكذلك تغيرت عادات المعيشة بصورة مذهلة من السرعة والجودة، وأحدثت زيادة هائلة في الثروة، وأدت إلى ارتفاع في مستويات المعيشة. ونبَّهت العلماء للوظائف الإنتاجية والعملية للعلم، ودفعتهم إلى الاهتمام بهذا التحول. كما دفعت السلطات السياسية إلى إصدار نُظم وقوانين وترتيبات متنوعة استجابةً للتغيرات النوعية التي طرأت على الحياة العامة والخاصة. يؤكد البعض على أن هذه الثورة هي أكبر تحوُّل في المجتمع منذ اكتشاف الزراعة. واصلت الثورة الصناعية حركة التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي بدأت قبلها، فأدت إلى هدم النظام القديم، وانجلت نتائجها عن الدولة الحديثة بتجلياتها المدنية، وتأكيد قيمة الحياة وأهمية السعادة الدنيوية، فقد تحوَّل اهتمام الناس من الاستغراق في الثقافة الجنائزية إلى العناية بالحياة الدنيا، وانتقل الناس في أوروبا من وعود الكنيسة الأخروية إلى وعود الثورة الصناعية بالرخاء والرفاه والتسهيلات ويُسْر الحياة، فالهدف الأول للناس أصبح هو السعادة. إن الثورة الصناعية لم توحِ بها العلوم، وإنما هي التي استدرجت العلوم لتخرجها من اهتماماتها التجريدية، مثل الاهتمام بالكون، فدخلت العلوم بعد هذه الثورة مع حركة الاختراع في شراكة منتجة، يتبادلان التأثُّر والتأثير، فبات العلم مجرد وسيلة عملية. وأدى تزاوج العلم والعمل وتبادل التأثُّر والتأثير إلى اختصار الطريق وتقليل الجهد، وأصبحت التقنيات تتطور بسرعة خارقة. لم يكن التعليم منتجاً للثورة الصناعية، وإنما هو بعض نتائجها، حيث صارت الأعمال المستجدة تتطلب من يقوم بها، وهذا أحد أسباب العمل على تعميم التعليم. ومن أجل جلب الطعام والوقود إلى المدن وتوزيع المنتجات الصناعية، فقد جرى تطوير أشكال جديدة من وسائط النقل، ما استوجب اختراع الناقلات والقاطرات وإنشاء سكك الحديد. ومن أجل أن يُنتج المزارع فائضاً كبيراً يكفي لإطعام سكان الحَضَر الجدد كان لابد من تحسين الطرق الزراعية. إن ندرة العمال حفزت الصناعيين إلى المكننة، ما يعني حدوث تطورات صناعية. وكان من المهم أيضاً إقامة المؤسسات السياسية التي تضمن المشاريع الفردية والتفضيل الحكومي للصنف الصناعي والتجاري، أي حدوث تطورات سياسية. لقد أبتكر ريتشارد آركرايت ماكينة الغزل (1767) التي تعمل من خلال الماء، فهو لم يكن من رجال العلم، وإنما كان مخترعاً عصامياًّ ورجل أعمال مقداما، قضى شطرا من حياته حلاقاً ثم تحول إلى تجارة الخيول ثم منها إلى صناعة الباروكات ثم تحول إلى صناعة الغزل. إن صناعة النسيج كانت بداية الثورة الصناعية في بريطانيا، فالنسيج هو أكثر الأشياء استخداما في الحياة الإنسانية، فالكل لا يستغني عن الملابس. أدت المغازل على طراز مغزل آركرايت إلى ظهور سلسلة متكاملة من الماكينات التي قلَّصت من تكلفة الإنتاج. إن نجاحات آركرايت كانت بمثابة صيحة النفير التي أثارت اهتمام المجتمع الإنجليزي أولا ثم المجتمع الأوروبي، ووجَّهت أوروبا كلها وجهة جديدة، وفتَّحت أذهان الناس على الآفاق المذهلة التي يتيحها الاختراع والفرص الوظيفية التي تخلقها المشروعات الكبرى. لقد أدت الاختراعات إلى توجيه الإنجليز نحو أمر مهم وهو السعي في طلب المال عن طريق الصناعة والتجارة. لم يكن نجاح آركرايت سهلا، فحاربه أهل الحوانيت والعاملون في بيوتهم، فأحرقوا مصانعه، لكنه كان يعيدها قبل أن يبرد رمادها، ودعا هؤلاء المعارضين إلى الالتحاق للعمل في مصانعه، وكان له ما أراد. إن التغيير الذي أحدثه آركرايت كان تغييراً جذرياً، إنه انبعاث لروح المغامرة وتكوين للقدرة على المبادرة وإثارة لتطلعات العقل المبتكر. بالإضافة لاختراعه آلة غزل النسيج، قام بسلسلة من الاختراعات لنَدْف القطن وغزله، فأدخل الأجهزة المائية إلى المصانع لإنتاج الجوارب بنطاق واسع ولإنتاج الأقمشة القطنية. لذا لم يكن مُستغرباً أن يكتسب آركرايت لقب «أبو الثورة الصناعية». أما المخترع الآخر فهو جيمس وات مخترع الآلة البخارية (1778). يُعتبر وات أبو المحرك البخاري. لقد عَلَّم وات نفسه بنفسه، باهتمام تلقائي قوي مستغرق؛ فقد كان يملك توقُّد الاهتمام، وفطنة العقل، ومهارة اليد، والقدرة على رؤية الطاقات الكامنة. لم يكن تأثير جيمس وات محصورا في المجال العملي بل كان تأثيره على العلم عظيماً. إن اختراع جيمس وات للآلة البخارية، واستمراره في تطويرها ورفع كفاءتها كان تطورا حضارياًّ حاسماً ونوعياًّ، فقد مثَّل وثبة هائلة في مجال الطاقة تَغيرتْ بها مسيرة الحضارة. لذا فقد كان مُستحَقاًّ وَضُع جيمس وات في المرتبة ال 25 من بين أبرز العظماء المائة الأوائل الأكثر تأثيراً في الحياة الإنسانية خلال التاريخ البشري.