هذا المقال السادس عن كتاب، إبراهيم البليهي، «الريادة والاستجابة»، وعنوان المقال هو «حركة مارتن لوثر الإصلاحية». يبحث هذا الكتاب في عوامل التَّغيير التي أدت إلى الانبعاث الأوروبي. ريادة مارتن لوثر، رغم أنه أستجيب لها بقوة من قطاع كبير من الشمال الأوروبي، ما كان لها لتحقق أهدافها إلا بتدخل قوة سياسية كافية، تَمثَّلت بمؤازرة بعض الأمراء الألمان، وتصديهم عسكريا لهجمة الطرف الكاثوليكي، فالأمراء الألمان كانوا يتطلَّعون إلى مزيد من الاستقلال في أمورهم الدينية والدنيوية عن الكنيسة الكاثوليكية المتسلطة، وعن الإمبراطورية المقدسة، وبهذا يتجسد التكامل العضوي بين الريادة الفردية الخارقة والاستجابة الإيجابية الكافية، أي حدوث التكامل العضوي بين الريادة والاستجابة. من هنا جعل إبراهيم البليهي، عنوان كتابه الذي بين يدي هو، «الريادة والاستجابة». انشقاق مارتن لوثر لم يستهدف تحرير العقل الأوروبي؛ فقد كان لوثر معاديا للفكر الفلسفي الإغريقي، وللديمقراطية الإغريقية، وكان معاديا للاتجاهات العلمية، وكانت وساوسه الأخلاقية تميل به إلى التشدد الخانق وكتم الأنفاس، وكان من دعاة الانغلاق، وكان يريد الرجوع بالمسيحية إلى الأصل الذي يعتقد أنه نقي، لكن نتائج اللوثرية السياسية والفكرية والاجتماعية كانت عظيمة، وكانت خلافا لقصد لوثر وعلى عكس اتجاهه، وهذا هو مكر التاريخ. تأثير مارتن لوثر القوي والواسع يعود إلى أنه وجَّه ضربته إلى المعضلة الأساسية، وهي هيمنة الكنيسة على الحياة الأوروبية. إن المفتاح الحقيقي هو التفكُّك المستمر الذي حلَّ بأركان النظام القديم، وظلت عوامل هذا التفكُّك حتى برزت إلى الوجود معظم الأسس التي ارتكزت إلى الأركان اللازمة لقيام نظام جديد، وأهم عوامل التفكُّك هو الاضطراب الذي حل بالكنيسة الكاثوليكية والفساد الذي استشرى فيها، وتذمر الناس من انقساماتها، وسوء أوضاعها، وتكاثر الانشقاقات، ومعاملة المنشقين بمنتهى القسوة، وتَعالِي أصوات النقد، فجاءت ثورة مارتن لوثر تتويجاً لكل هذا. عندما نجحت حركة الإصلاح اللوثرية في مهاجمة روما، فإنها تمكنت من تحقيق تغيُّر كاسح في التنظيم السياسي والبناء الاجتماعي والسيطرة الاقتصادية على الممتلكات والأسطورة الاجتماعية السائدة، وعندما فعل البروتستانت ذلك، فإنهم تحالفوا هم والمحاولات العلمانية المستقلة للحد من تحكم الكنيسة في الحياة المدنية وتسليم عامة الناس مقاليد الأمور، إن اضطرار البروتستانت إلى التنسيق مع العلمانيين والأخذ بالأفكار الدنيوية، والتحالف مع السياسين الراغبين في التحرر من قبضة الكنيسة ومن تسلط الإمبراطورية المقدسة؛ هو الذي حقق التحرر لأوروبا وليس دعوة لوثر ذاتها، لقد كانت الدعوة مجرد سبب وسيلة ومَنفذ. وبهذا يتضح أن المجتمعات تتقدم حين تتحرر من عبء التاريخ الثقيل والمكبِّل للعقول والقامع للإرادات، فالمعوَّل عليه هو التحرر من الوصاية والخروج من كهف اللاهوت، كل التطورات الفكرية والعلمية والسياسة والاجتماعية والاقتصادية، وتطورات الفنون وتبدلات الأوضاع؛ هي ثمرة الحداثة، أي الإنعتاق من وصاية اللاهوت، إن الحداثة هي تحوُّل جذري في نظام التَّفكير وفي منظومة القيم وفي أسلوب الحياة، إنها تبدل لاهتمامات المجتمع وتغيُّر لاتجاه حركته، إنها التحرر من الماضي والتركيز على الحاضر والمستقبل. لقد أسهم لوثر في فتح أبواب النقد العلني وأعطى القدوة بإعلان السخط وقوَّض الهالات التي أقامتها الهيئات الدينية، وحاول أن يعيد للدين بساطته ونقاءه، وأنكر أكثر الأعمال والطقوس التي استحدثتها الكنيسة، واجتهد في أن يقضي على احتكار الفهم؛ وأعلن للناس أن الاتصال بالله متاح لكل فرد، فأسهم في بزوغ النزعة الفردية في أوروبا؛ وشن هجمة عارمة على الصور المقدسة، فخرق الهالة المحيطة بتلك الرموز، إن ما ساعد في انتشار اللوثرية هو ظهورها في بيئة كانت متعطشة للتنفيس، فقد كانت في حالة غليان سياسي مصحوب بغليان فكري كان يضطرم في نفوس الطليعة المستنيرة ضد الاستبداد وضد تحجر واحتكار الكنيسة الكاثوليكية وفسادها، لقد كانت المجتمعات الأوروبية مهيأة لاستقبال التغييرات التي أحدثتها اللوثرية، إن قابلية التَّغيُّر هي معيار التَّحضُّر. لذلك اختاره الكاتب البريطاني توماس كارليل في كتابه: الأبطال، مؤكدا دوره البطولي في النهضة الأوروبية وفي الانعتاق من الشلل الذي أحدثته الكنيسة في العقل الأوروبي خلال القرون الوسطى. لقد حررت حركة الإصلاح اللوثرية أوروبا من القبضة الحديدية للكنيسة التي كانت تمارس وصاية على العقل والوجدان والأخلاق، فليس أشد إعاقة للأمم من هيمنة التحجُّر المبرَّر بتعاليم مقدسة؛ وفتحت ثورته أبواب النقد، فنشأ ما عرف بظاهرة «العداء لرجال الدين»؛ وتسببت ثورته في نزعة شكية متزايدة، نتج عنها علمنة كامل الحياة، فبالشك تفتَّحت الآفاق وتحررت العقول، فانتقلت المجتمعات الأوروبية من التحجر إلى التحرر، ومن الحركة الدائرية إلى الحركة الصاعدة، ومن ثقافة الخوف والإخفاء والتكتم إلى ثقافة الأمان والوضوح والمصارحة. ومن مزايا ثورة الإصلاح اللوثرية أنها أدت إلى ظهور رواد إصلاحيين في مختلف المجالات؛ وتسببت اللوثرية في ظهور تطورات، لم تكن لتحدث لو لم يتم إسقاط الكنيسة، منها أن الإصلاح الأوروبي قد تمكن من وضع حداً للعنف بين الدولة والمواطن، وبين المواطن والمواطن، فكلٌّ يدرك حقوقه وواجباته، فتوصل القوم إلى التعايش السلمي والاحترام المتبادل؛ وصارت الوظيفة السياسية وظيفة خدمية مؤقتة، يمنحها الشعب وينتزعها الشعب، ويحدد صلاحيتها الدستور والقانون. وأخيرا، وبحسب المؤلف، فإن أهم تأثير لمارتن لوثر هو التحرر من وصاية الكنيسة الكاثوليكية، وانكشاف نقائصها، وتعرية تجاوزاتها، ووضْع أخطائها تحت المجهر، واستعادة الإنسان الأوروبي لحريته؛ فانعتق الناس من التنويم، وتشجَّعوا على التفكير الحر، باختصار في التحرر من سلطة ووصاية الكنيسة يكمن سر التحولات الأوروبية وانعتاقها من أغلال القرون المظلمة؛ وقد كان لحركة لوثر الإصلاحية الدور المفصلي في حدوث ذلك، لهذا كان العنوان الفرعي لكتاب البليهي، " الريادة والاستجابة"، هو، " قوَّضَتْ أوروبا هيمنة الكنيسة فانفتحت لها الآفاق".