شاهدت، صفقت، وتعمقت في كل من كان ينافح عن هويته، ورأيت السعودي يفعل ذلك حتى مع نفسه، فهو يعيدها دائماً تارتها الأولى بعد كل هذا الازدهار والتطور والتقدم العمراني الذي يعانق السحاب، ليتقدم أكثر. فيستجم في الصحراء، وفي الجبل، والبحرِ والمزرعة، يقدس حياته الأولى حتى إنه يُغيِّب تفاصيل العيش القديمة في المأكلِ والمشرب والملبس والتعامل مع البيئة، هذا البدوي الأصل يتأمل طبيعته بهويته الأصيلة، حتى ينهض من جديد إلى ما يصب في تطوره ونهضة المجتمع فنياً، ثقافياً، سياسياً، اقتصادياً، ودينياً. وبعد كل هذا.. كي نعرف لابد أن نسأل: هل الحضارة تمدن؟ عرَّف ويل ديورانت صاحب أجزاء الكتاب الموسوعي «قصة الحضارة» بأن الحضارة هي: «نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذٍ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها»، ووصف ابن خلدون الإنسان بأنه كائن مدني بطبعه. واستكمالاً لحل السؤال نعود إلى نشوء الحضارات، وقد بدأ هذا النشوء من النطاق القبليّْ الذي كوَّن مجالاً حضرياً يُعنى بالعادات التي تُنظم سلوك الفرد في نسق جماعي، ثم تطورت إلى النطاق الديني الذي جمع القبائل، ثم تطورت المجتمعات ونشأ النطاق السياسي، وهو ما جمع الأطياف والفرق المختلفة والمنعزلة. نشأت نظريات عدة مهتمة بنشوء الحضارات وما يهمنا فيها التالي: نظرية البيئة: خرجت هذه النظرية في القرن الخامس قبل الميلاد، وتتحدث عن أثرِ المكان والمناخ والماء على الإنسان في تفكيره وطبيعة خلقه. كما تُعدد هذه النّظرية بعضاً من الشّروط الأساسية لقيام الحضارات ونموها، وتطوّرها، أو انحطاطها، ومنها: وجود المطر، طبيعة الترّبة من حيث صلاحيتها للزراعة، ارتفاع أو انخفاض درجات الحرارة، طبيعة الموقع الجغرافيّ. نظرية ابن خلدون: أرى أنها مؤكدة ومفسرة لنظرية البيئة التي اعتمدها فلاسفة اليونان، وتطرق ابن خلدون لأثر البيئة الواضح في الصفات البيولوجية للإنسان، مما يقرر اُثرها على عاداته، وتقاليده، وسلوكياته، وقراراته، وعقله، وأن للمناخ دوراً مهماً ورئيساً في الأمر، وبالتالي فإن كان المناخ حاراً في منطقة ما فإنه لا محالة ستتولد أفكار وعادات وتقاليد ذات طبيعة صلبة وحارة، أما في حالة إذا كان الجو معتدلاً سينتج عنه أفكار وتقاليد معتدلة. نظرية التحدي والاستجابة: هذه النّظريّة جاء بها المؤرِّخ البريطانيّ أرنولد توينبي، حيثُ تقولُ إنّ الظّروف الصّعبة هي من تُقيم الحضارات كردِّ فعلٍ على التّحديات القاسية، حيثُ لا تظهرُ الحضاراتُ نتيجةَ بيئة جغرافيّة مُعيّنة، ولا مواهب فطريّةٍ وبيولوجيّة". نعود للبداوة الآن فنجدها المُسبب لهذه الحضارة الثابتة، والصلبة، وأن هذا البدوي السعودي ابن بيئته، وبداوته، ومحط مقالنا هذا قد تحدى الصعب واستجاب وطوَّع كل شيء؛ لخلق نظام اجتماعي سياسي، واقتصادي قوي في بيئةٍ تحثه على ذلك. فكيف يُحقَّرُ الأساس والمسبب يا شربل وكيف عُينت بجهلك وزيرا؟