تأملت أحوالنا وأحوال الأمة بشكل عام التي لا تحسد عليها، قرأت بعض تاريخها وعدت عليه مرارًا لأنهم غرسوا فينا حب هذا التاريخ ومجده التليد، بل جعلونا نعيشه عوضًا عن أن نتدارسه ونعرفه فقط لكي نستفيد منه دروسًا تقينا من قر وقيظ الأيام.. فعندما تأملته وتكرر علي كثيرًا في كل المجالس والمنصات الناطقة والصامتة، وجدته يزأر ويعن بالصدأ.. لقد حملناه أكثر مما يحتمل وفسرناه بما لا يفيد وجعلنا منه أسطوانتنا المشروخة التي أصبحت ممجوجة إلى درجة الغثيان، لم نتقن صداحًا وصراخًا وسماعًا أكثر لإسطوانة مثل هذه الإسطوانة!. كنا وكان آباؤنا وكان الأولون أجدادنا! ورغم أننا لعنا حتى هؤلاء أو جزء لا يستهان به منهم وواصفناهم بالزنادقة والخارجين عن النسق الثقافي السائد فنبذناهم، ونتغنى بأن الآخرين يحسدوننا على ما نحن فيه وذلك إما لعدم إدراكنا ما نحن فيه وأننا في القاع وفي هذا الظلام الدامس منذ قرون وهذا هو الراجح أو لتكبرنا على حتى ذواتنا وعلى من حولنا ولا نرى أنفسنا ووضعيتنا وأوضاعنا بمنظار الأمين الصادق الناصح، وأيضًا المنظار الموضوعي الذي يقدر للآخرين إنجازاتهم لتكون محفزًا له لكي يتخلص من الوهم الذي يعيش به منذ قرون بأننا الأفضل وأننا السابقون، ولو آمنا بذلك وتساءلنا أين نحن من اللاحقين. قد لا يعجب كثيرين كلامنا هذا، ونحن هنا نحاول أن نفتح كوة ولو صغيرة في هذا النفق، وهذا لا يعجب من فضلوا وضعية الإنسان المستهلك أو كما يقولون يخافون مغادرة المنطقة الآمنة في الحياة ويحاربون أي تغيير إيجابي. فعلى ماذا يحسدنا الآخرون؟ سؤال لا بد من أن نضع له إجابة باستعراض أقلها تاريخنا القريب منذ قرنين من الزمن. تأملت الحركات السياسية والدينية أو بعضها ومسيرتها عبر هذا التاريخ وحراكها الماضي والحاضر، وكلما تابعت خطها البياني في محاولتها الرامية للدفع بالأمة إلى الأمام، النتائج والمؤشر دائمًا يشير إلى التقهقر والتراجع وهم يخطون خطواتهم إلى الخلف وكأنه هناك خللاً في تركيبة هذه المكينة الدافعة التي لم تضف إلى خيباتنا وهزائمنا إلا خيبات جديدة وانهزامات أكثر مرارة من سابقاتها! لا أفهم هذا التراجع المستمر والمشي إلى الخلف، والمفترض إلى الأمام ولو قيد أنملة، إلا أن العينات ماثلة والنتائج واضحة ولقد أضحت كارثية وعلى كل المستويات.. هذا التردي الذي تعجز عن وصفه معاجم اللغة وهذا الكم الكبير من التفكير الصدأ وهذا الكم الهائل من النفاق والتملق اللا أخلاقي واللا وطني واللا قومي واللا ديني، وهذه المكينة التي تمشي فقط إلى الوراء لا يمكن أن تكون قاطرة دفع إلى الأمام بحال. لم تعد الحال تخص شخصًا أو مجموعة فالكل في هذه السفينة معًا، إنه أمر أضحى أكثر من ضروري لإعادة صياغة كثير من مفاهيمنا للحياة وتعريفها من جديد وتقبلنا لخيباتنا، وأن نعترف أننا لسنا ملائكة وأن تاريخنا فيه من الهزائم والتقهقر والخيبات الكثير، وأن الشعوب الفاشلة هي وحدها التي تتمسك بما لا يفيدها وأن دخول التاريخ مجدداً ممكن ودليله موجود وخريطته اتبعته كثير من الشعوب يمكن الاستفادة منها والتعديل عليها لتلافي أخطائها؛ بل وضع تصورات أكثر جمالًا وأكثر تناسبًا للعصر وفائدة لأجيالنا. إن عقلية هذه الحركات التالفة يجب استبدالها بالضرورة بعقول فاعلة مستنيرة متطلعة ناطقة غير متملقة متعلمة مثقفة واعية لها مبدأ واحد، وانتماءها الوحيد هو انتماؤها للخير الذي تريده أن يعم الجميع لبناء مجتمعات تسهم في بناء الحضارة الإنسانية ولا تكون عبئًا عليها فقط ..يجب أن يزال هذا الصدأ من ذاكرتنا ومن تقنية تفكيرنا ومن معارفنا السطحية ومن تكرار المكرر وتجريب المجرب الذي ورثناه تاريخيًّا.. يجب أن نعدل من قصور نظرنا المعرفي والعلمي والأخلاقي لكي نتقدم .. لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون لنا دورًا لامعًا مفيدًا ونحن نعيد ذات التجارب ونتطلع لنتائج أفضل.. هذا مستحيل منطقًا قبل أن يكون مستحيلًا علمًا، فمعظم الشعوب اليوم تلد أجيالاً جديدة متطلعة ذات قدرات وطاقات كبيرة، ونحن نلد آباءنا وأجدادنا.. وليتنا نلدهم كما هم بكثير مما يحملونه من طيب وخير وأخلاق جميلة، بل مشوهين بخلطات جديدة من اللاشرقي اللاغربي..! والحديث هنا ليس للذم إنما معلوم أنه لا يجب أن تشبه الأجيال بعضها وإلا بقيت كما بقوا بذات المستوى وهذا ما نعاني منه، حيث يتخرج المتخرجون من أفخم الجامعات محليًا وعالميًا، إلا أنهم لا يلبثون العودة رويدًا إلى ما ألفينا عليه آباءنا وأجدادنا، فيكونون بذلك مصدر تخلف إضافي عصي على التغيير الإيجابي، وهنا لا أعمم فهناك من العقول النيرة والمفكرة الكثير لكنها لم تبلغ عتبة المفيد علميًّا ليكون قاطرة التغيير الإيجابي، ومعلوم أن أي تغيير يحتاج أن يبلغ مداه يجب يتجاوز العتبة المطلوبة لكي يتغلب على الوسط الموجود فيه.. نحن لا نزال نبحث عن هويتنا الجديدة التي تتلاءم وتطلعاتنا. إننا بهذا نبادر إلى وضع بعض المفاهيم والتعاريف ونسلط الضوء على حالنا من باب أشعل شمعة ولا تلعن الظلام!