قرأنا في الحلقة الماضية تلك الأبيات الرثة، المفعمة بالحس المنكسر، والعاطفة البالية، والنبرة الكالحة الضاجة بالنفور والمقت، والنقمة المتهكمة، والمكون الهزلي الساخط على مدينة (أبها) حين سلبها كل محاسنها، وجردها من ملامحها، وأحرق كل فراديسها الخضراء، إنه الشاعر البائس (أحمد البدري) وقصيدته التي لا تستقيم مع الذوق والجمال ومنطق الأشياء، كمن تقول له: هذا هو البحر الآسر فيقول لك: ولكنه ملح أجاج، وتقول له: هذا هو القمر المضيء فيقول: ولكنه صخور وحجارة، وتقول له: هذه الوردة وهذا أريجها فيرد عليك تبدو وردة بلاستيكية لا غير. عندها تدرك أن صاحبك يتمتع بذائقة محاصرة بالقبح والتوحش، وتأثيم الذات واضطراب الرؤية، وبلاهة التعبير، والاحتكام إلى المخزون المشوه، والفهم الكسيح، هو لم يشهد (أبها) حين تفتح نوافذها كي تسمح بعبور الشمس والريح والعصافير، لم يبصرها في الليل وهي تغسل جسدها تحت نافورة الغيوم والمطر، فتصبح دافئة كالحياة، عذبة كهديل الحمام، تشتعل القصائد تحت حجارتها كتمتمة الأفلاك، وارتجاف المسارج في ليالي الشتاء، وحفيف الأحلام الوثيرة في عيون الأطفال، ينام في رئتيها عبير الأرض، ومشاعل الفجر، وتكتحل شرفاتها بالبروق، وهالات الدهشة الطافحة بالعطر والشعر والأسرار الباذخة، لا يلام سكانها الجبليون حين يخافون عليها من (العين) فيدونون عشقهم ودفء تعلقهم وانخطافهم تحت وسائدهم، فهي عروش السحر، واستطالة المباهج، ومكامن الفرح الصافي، أحس أن ضلوعهم تنحني كقوس الربابة وهم يسفحون (طروقهم) المنقوعة بالشوق والحب والذكريات العذبة حين يتحدثون عن هذه الفاتنة (أبها) وسيرتها الوضيئة، قرأ الدكتور الشاعر زاهر بن عواض الألمعي قصيدة (البدري) المتجهمة والمظلمة والعقيمة. فرد عليه بقصيدة مطولة نقتطف بعضا منها بتصرف، ومن أراد الرجوع إلى القصيدة كاملة فعليه العودة إلى ديوان (الألمعيات) ضمن المجموعة الشعرية الصادرة عن نادي أبها الأدبي عام 1437 من الهجرة، يقول الألمعي: لكل قول مدى الأزمان خذلان ... إن لم يقمه على الإنصاف ميزان وزلة القول يهوي في مداركها ... من خانه الفهم أو أغواه شيطان فمنذ أن ردد (البدري) قولته ... في ذم (أبها) وللأطياف طوفان وجاء طيفي له في الأفق جلجلة ... تفور منه القوافي فهي بركان عجبت من شاعر ندت مشاعره ... فما رأى روضة بالزهر تزدان يطوي الحقائق في الأعماق يدفنها ... كأنه متعب الأفكار (غلبان) فهاك نقضا لها لا أبتغي جدلا ... وإنما الحق في الميدان سلطان أما الغبار فلا يبدوله شبح ... في أفق (أبها) فذاك القول بهتان لأنها في الذرى باتت محصنة ... يحيطها من سياج الزهر ألوان وقولكم في عتاب (إنها بلد ... لا يستريح به في الدهر إنسان) فذلك القول لا يرقى لعزتها ... ولا يقول به يا صاح يقضان وليس قولك يخفي من محاسنها ... فالناس تعرفها أيان ما كانوا هي الجمال هي المصطاف يقصدها... من كل صقع مدى الأزمان إخوان ما زلت أعجب من قول نطقت به... وما لديك على ما قلت برهان أطلالها معقل الأمجاد من قدم ... ولا يزال بها شيب وشبان قوم إذا ما دعا الداعي لمعركة ... هبوا أسودا لها في السبق ميدان شم الأنوف متى هاجت مواكبهم ... قاد الكتائب في الغارات شجعان ومن أخص صفات القوم أنهم ... للضيف أنس وللمظلوم أعوان فجانب الذم عن (أبها) وبهجتها ... وحكم العقل إن العقل ميزان ولو تجولت في شتى مصايفها ... لراعك الورد واستهوتك أفنان ولو تدرجت في أعلى مشارفها ... أتاك من نفحها روح وريحان لكن كفتك بطاح الأرض منتجعا ... فما تسامى ل(أبها) منك وجدان