استقبل مستخدمو وسائل التواصل الوافد الجديد «Clubhouse» بطرق مختلفة، وتباينت ردود أفعالهم تجاهه، فمنهم من بادر وغامر وشارك، ومنهم من وقف موقف الحياد، منتظرا ما تأتي به قوافل المستكشفين، ومنهم من بدأ بانتقاد المنصة الجديدة حتى قبل أن تصله دعوة الاشتراك فيها، إما خوفا من تهديد مكاسبه الشخصية على المنصات الأخرى، أو خوفا من المجهول في زمن لم يعد ممكنا فيه السيطرة على تسارع قنوات التواصل أو التحكم في مداخل التأثير والمعرفة. الحقيقة أن التوجس حيال هذه المنصة له ما يبرره، فبعد أن تجاوزنا مفهوم «الحداثة السائلة»، وعبرنا بوابة «الهوية السائلة» التي تؤثر وتتأثر بمن حولها بقصد ودون قصد، حتى صارت الهوية نفسها مفهوما يصعب تعريفه إجرائيا بين الأجيال المتقاربة ذات التجارب المختلفة، يتشكل الآن في غرف النقاش بهذه المنصة ما يمكن تسميته «الوعي السائل». «الوعي السائل»، كما أراه، هو تمرير الأفكار بين المتحاورين بسهولة ودون اعتبارات علمية أو معرفية أو تحكيم للمحتوى، مما قد يجعل فكرة عابرة عند أحدهم تستقر في وعي شخص آخر، وقد تعيد تشكيل واقعه سلبيا أو إيجابيا. فغرف النقاش قد تجمع بين مبتدئ في التجربة الحياتية المطروحة ومخضرم قضى حياته كلها في دهاليز هذه التجربة. «الوعي السائل» ليس سيئا بالضرورة ما دمت تدرك أنه يحدث، وما دمت تختار وتنتقي من تحاورهم في أي منصة كما تنتقي كتبك أو برامجك المتلفزة، لكنه يصبح خطرا داهما حين تفتح أذنيك وتصم عقلك وتمتص أفكار الآخرين دون فلترة، فغرف النقاش في هذه المنصة تجمع المتحاورين على طاولة ممتدة من الموضوعات، ووجبتها الأهم هي تشكيل الوعي بغض النظر عن جودة الإعداد أو صحة الفكرة، مما يخلق مؤشرات قوية يجدر بالمتخصصين الالتفات لها، لدراسة المتغيرات الاجتماعية دراسة واعية بما يحدث حولنا. تجمع «Clubhouse» بين عنصرين مهمين، لتحفيز البشر على التواصل، وهما المباشرة والمكافآت، فالمتحدث يتكلم ويسمع غيره، ويصله الرد في اللحظة نفسها مع إمكان الشرح والتفصيل، مما يشعره بأهميته. كما أن التطبيق نفسه يمنح المتفاعل مكافأة متكررة بمنحه مزيدا من الدعوات الخاصة، لينمو مجتمعه داخل المنصة، مما يعزز من تقديره لحضوره وانتمائه لهذا المجتمع الافتراضي الجديد. ناهيك عن آلية الاشتراك الفريدة، المعتمدة على الدعوات الخاصة والترشيح، مما يخلق على الأغلب شبكة اجتماعية تجمع بينها اهتمامات متشابهة، وتتحرك باتجاهات متقاربة، وتؤثر على المتلقين بقوة تفوق قوة الرأي الواحد، وهذا جيد إذا كانت دوافعهم جيدة والعكس أيضا صحيح. يبقى السؤال الأهم: هل يجب أن نخاف من هذا التطبيق وندعو لمقاطعته؟ الحقيقة أن مخاوفنا تكشف دوائر اهتماماتنا، فالمتابع للمنصات يرى بوضوح أن محتوى Clubhouse لا يختلف عن محتوى بقية المنصات، ففي كل فضاء حر سيجد الإنسان نفسه محاطا بالعديد من المعرفات الحقيقية والوهمية التي تتسابق لتعرض بضاعتها عليه، وتحاول هندسة عقله وتشكيل وعيه. يبقى الفيصل في هذا الأمر هو مستوى الوعي الشخصي وحجم التجربة ودوافع الإنسان. سيجد المهتم بالمعرفة غرفا تمتلئ بها. كما سيجد من يبحث عن التفاهة أو الإعلانات المدفوعة غرفا تغرقه في بحار متلاطمة، تجمع بين التفريط في الوقت والمال وفوات فرصة الاستفادة من المنصة الجديدة معرفيا، كما يفترض، فما نبحث عنه يبحث عنا.