عبر إحدى القنوات الإذاعية وكلنا آذان صاغية. سمعنا كلمات ليست كالكلمات. جعلتني في تلك اللحظات أعيش في تفكير دائم ليس للوقت عندي حساب. فكل ما يهمني هو أن أستجمع من تلك الكلمات التي كتبت بعضها بصورة مبعثرة ما يعينني على صياغة الفكرة التي تدور في ذهني صياغة جيدة تعجب وترضي القارئ الكريم. تلك الكلمات كتبتها في اللاشعور، وحملت الأستاذ (س) على قص قصة حدثت له ولا أعلم كيف أصفها! حزينة عجيبة طريفة. قال: قبل ست أو سبع سنوات لا أذكر بالتحديد، لأنني قد مسحت تلك القصة من شريط ذكرياتي بأقوى نوع ممحاة اخترعتها البشرية. لكن طالما أنكِ أمسكتِ بالورقة والقلم فإنني مضطر للرجوع عبر خط الزمن إلى اليوم الذي أعلن فيه المنظمون في الصحف المحلية، وجدول فعاليات "جدة غير"، ومركز جدة لذوي الاحتياجات الخاصة عن الحدث العالمي، أقصد "عالمي" الخاص. ماراثون جدة غير... حقاً "غير"، لأنه ولأول مرة سيقام السباق للأسوياء والمعاقين. حماس.. هي الكلمة الوحيدة التي أستطيع أن أصف بها شعوري. كيف لا؟ وأنا الذي سيشار إلي بالبنان، وسيشاد باسمي، وسأفوز بالجائزة، وبعدها سأصبح نجماً إعلامياً.. وأي جائزة ستكون للفائز الأول من المعاقين! أي نعم، إن الجائزة غير معلنة، لكن يكفي أنه قد تم الإعلان عن الجوائز للفائزين الثلاثة الأوائل من الأسوياء: سيارة، دباب مائي، ولاب توب، ولو أنه لم يكن هناك متسعاً على أرض السباق لأضيفت إلى تلك الجوائز الطائرة والباخرة والغواصة. كانت الجائزة بالنسبة لي هي المحفز الأساسي لرفع التحدي، بلاشك فكنت وقتها شاباً لم يتجاوز ال23 عاماً. وكما لا يخفى عليك، لا توجد أندية رياضية للمعاقين. لكن من شدة الحماس عسكرت أنا وصديقي على الرصيف المقابل لفندق الهيلتون لنقوم بعمل التدريبات اللازمة لمدة ساعتين من السبت وحتى الأربعاء، ومن التاسعة حتى الحادية عشرة مساء. أما الخميس والجمعة فالمكان يكون مزدحماً بشكل كبير، ولا نستطيع أن نحرك الكرسي وسط الناس. فنشعر بالحرج! إنها معاناة طويلة في التدريب على الكرسي المتحرك أتى بعدها فجر ليلة السباق التي لم أنم ولم يغمض لي فيها جفن، ونالني من شدة العزيمة والإحساس بالفوز بالسباق والرهبة والخوف ما لا يصفه قلم، ولا يتحدث عنه لسان. انطلقت إلى موقع السباق، وإذ بالازدحام الشديد عند مواقف السيارات، لكن أين الأماكن المخصصة لمواقف المعاقين؟ ومكثت أبحث عن موقف لسيارتي.. وبعد تعب ومعاناة وجدته ولله الحمد. وبعدها صلينا الظهر، وإذ بالمفاجأة! فموعد الانطلاقة للأسوياء الساعة الخامسة بعد العصر، بينما موعد انطلاقة المعاقين الساعة الثانية بعد الظهر، في شهر أغسطس، ولكم أن تتخيلوا ذلك! ليس ذلك فحسب بل لم تتوفر لنا كراسٍ متحركة مخصصة للسباق، وهذا أمر هين بالنسبة للمفاجآت القادمة. المسافة التي بين موقف السيارات إلى نقطة الانطلاقة أطول من مسافة السباق نفسه! انتقلنا على كراسينا المتحركة وفي شدة حرارة الشمس دون أي تهيئة لتغطية الرأس بقبعة أو نحوها، نجر كراسينا جراً حتى وصلنا بعد جهد وعناء إلى نقطة الانطلاقة، والعرق يقطر من أجسادنا. وهناك وجدت حشوداً من رجال الأمن، والدوريات، والمصورين. رهبة المشهد جعلتني أتخيل أن صوري ستظهر على قناة الCNN في القريب العاجل. ستة عشر من إخواني المعاقين قد اصطفوا للسباق كأقلام الألوان. هذا يرتدي اللون الأخضر وذاك الأصفر، وحدث ولا حرج، إلى أن رأيت أحدهم يرتدي الزي الوطني. وكل واحد منهم قد ارتدى رقماً يظهر على صده وظهره، منظر المعاقين أشبه ما يكون بالمهرجين في المسرحيات الكوميدية، لو كنت من المنظمين لكنت أعطيت المعاقين حقهم على الأقل في أن يظهروا بالمظهر اللائق الذي يعبر عن صورة بلدي بشكل جيد أمام العالم. قلت في نفسي: إن المعاقين صناديد يتحملون أي موقف، والسبب في تقديري هي "الإرادة" الحقيقية التي سمعناها قبل دقائق على الراديو، فحينما انظر إلى إخواني المعاقين أرى الإرادة والحماسة تبرق في أعينهم. الهمة العالية دفعتهم إلى تحمل حرارة الشمس، والتنظيم السيء، وأضف إلى ذلك "الجائزة" القيمة. دقت ساعة العمل.. وبعد طلقة مسدس السباق، شعرت أن كل شيء في كياني قد تغير، فانطلقت روحي قبل جسدي، لم أر أمامي غير الهدف.. (س) الفائز بالمركز الأول وهو يستلم الجائزة. عبارة عن سيارة بيضاء مخصصة للمعاقين ومن أحدث طراز. وبعد أن قطعت مشواراً في السباق بدأت أشعر بأن شيئاً ما يتقطع من يدي وهناك نزيف دماء، وسمعت صوت أخي الصغير الذي كان يجري بجانبي فوق الرصيف ليدعمني معنوياً، يصرخ قائلاً: لا أحد بجانبك يا (س)، لا تتوقف فلم يبق إلا القليل على النهاية. وفجأة وإذ بالناس يهتفون ألف مبروك يا بطل، وأنوار فلاشات الكاميرات سطعت على وجهي. فأوقفوني حينها وإذا بأحدهم يركض ليعطيني بطاقة بيضاء مكتوب عليها باللون الأسود وبالخط العريض: الأول! فأيقنت حينها أنني قد فزت بالمركز الأول. لم يكن هناك شريط نهاية السباق، أو حتى خط في الأرض نعلم من خلاله أن السباق قد انتهى. لكن لا يهم ذلك فهذه مجرد ملاحظات أذكرها من باب التنفيس. وجاءت اللحظة الحاسمة، وقت تسليم الجوائز. فطلب منا أن نتقدم نحن الستة عشر متسابقاً ووضعوني في المنتصف وعن يميني وعن يساري باقي المشتركين، وجاء الشخص المسؤول وسلم علي وقال: مبروك.. وأعطاني ظرفاً مغلقاً. وكذلك فعل مع باقي المشتركين، أيقنت أن حلمي في حصولي على السيارة قد ذهب أدراج الرياح، لكن لم أفقد الأمل، لأن الظرف من المتوقع أن يكون فيه مبلغ وقدره. وهو بالنسبة لي أفضل بكثير من الجائزة العينية.. لعله خير. وإذ بهتافات المتسابقين: افتح الظرف نريد أن نرى جائزة المركز الأول، وأنا بكل حزم قلت: لا.. لن أفتحه إلا في منزلي. وإذ بالعائلة الكريمة في انتظاري. الكل يريد أن يعرف ما بداخل الظرف، وأعتقد أنتِ أيضاً.. أليس كذلك؟ قلت: نعم. قال: ففتحت الظرف وإذ بالصدمة النفسية! في داخل الظرف مبلغ مالي قدره مئتا ريال.. وما إن عرف الجميع ما بداخل الظرف، إلا وعبارات التحطيم تنهال على مسمعي. ولا أنسى كلمات الوالدة حين قالت بلهجتها" "إيش حادك على هذا! كسرت كرسيك، وقطعت يديك، وتعبت نفسك على 200 ريال!". ومن هول الصدمة على نفسي مكثت قرابة العام تقريباً، لا يمكن أن أشترك في أي مسابقة للمعاقين مهما كانت. وفي تلك الليلة بالذات لم تذق عيناي طعم النوم من القهر على حالي وحال إخواني المعاقين. ومما زاد الطين بلة معرفتي في اليوم التالي أن الأسوياء الفائزين قد تسلموا جوائزهم المعلن عنها: سيارة ووو إلخ. أيها القارئ الكريم، لو كنت في مكاني كيف ستتصرف بالمئتي ريال؟