ربما لا نضيف شيئاً جديداً عند الحديث والتفصيل بمنظومة انعكاسات ذلك الوباء المستجد، فالتداعيات الكارثية قد تعدّدت وتشعّبت وتلوّنت حتى غدت عميقة الأثر وبعيدة الأمد، إضافة لجملةٍ عريضةٍ من الضغوط النفسية والقهريّة المعنونة بالخوف والحزن، وتبقى مطرقة السؤال الأهم تدقّ سندانها بأن هل ومتى ستعود الحياة إلى سابق عهدها! وهل بانحسار الوباء ستنحسر تلك النُدب الغائرة في المزاج الجمعيّ والذاكرة الإنسانية بشكل عام!، وهل سيتراجع من انسحبوا طوعاً من عالمهم الخارجيّ وانكفأوا برغبتهم على أنفسهم رغبةً في العيش وطمعاً في الأمان! إذن فالمصيبة مؤلمة وعامة لكنّ منظورها والتفاعل معها لا بدّ وأنه يختلف باختلاف التفكير ويتباين بتباين العين. قد لا نختلف عن بعضٍ من غيرنا ولكن هذا شأنهم وهذا شأننا، فمنذ بداية الجائحة وفي مهدها لم يكترث الإنسان العربيّ لها كونها محصورةً ونائيةً وربما غامضة في بؤرتها، ولم يأخذ على الأغلب في حسبانه إمكانية وصولها وتمدّدها ربما من باب النأي بالنفس عمن يقضّ مضجعه، وما أن قطّعت سياجه وعبرت حدوده حتى أدار ظهره لها وشكك بوجودها وقزّم سطوتها، كونها برأيه إفراز مقيت من نظرية المؤامرة التي ألفها وآمن بمنظّريها، تحتاج منه في أحسن الأحوال مجرد جملةٍ من الإنكار وجرعة عابرة من التشكيك، لدرجة القول إن هذا كله غير موجود أصلاً سوى في أذهان الواهمين وخزعبلات المتشدقين. ثم استفحل ذلك العابث الوافد إلينا ليقابَل بالهرولة الساذجة على الأغلب صوب خلطات الخالطين وابتكارات العطّارين وأكاذيب المنجمين، وليترك عندئذٍ بعضُ رجال الدين خُطبهم الداعية للخير ومكارم الأخلاق ويتفرغوا لربط ما لا يُربط واقتران ما لا يجوز اقترانه، فيتبضّعون من التاريخ ويستدعون من الأديان المنزّهة ما لذّ وطاب لهم، ونسوا أو تناسوا أن لكل علم أهله وأدواته، وأن حتى محترفي الطب لا يحقّ لهم الفصل في علوم الفقه بلا دراسة أو اختصاص. ثم يعمّ البلاء ولم يُكتشف الدواء، فيبدي الإنسان العربيّ نوعاً من عدم الأخذ بعوامل الوقاية وأسباب السلامة ما دامت الجائحة في الشارع المقابل لبيته، وما دام الموت يتجوّل على الضفة الأخرى من النهر، وما دام ذلك المخلوق اللئيم لا تراه العين ولا تُطبق عليه أصابع اليد، ويتصاعد الضيق ويتقهقر الصبر والتحمّل، فتشدوا بعدئذ العقولُ والقلوبُ أملاً بأن يبصر ذلك اللقاح السحريّ النورَ قريباً، وتنفطر الأفئدة بمجرّد سماعها أن ذلك الرجاء يحتاج الكثير من الوقت وربما الحظ أيضاً. في وقت لم تستطع فيه الأصابع العربية بأذرعها العلمية والتقنية أن تفعل شيئاً، وفي أوانٍ اجتهد فيه وتفانى علماء الغرب والشرق فوق طاقتهم، ولزموا مراكزهم البحثية ومختبراتهم العلمية بأكثر من الليل وأطول من النهار، وليدخلوا في نفقٍ قاسٍ من المراحل الشديدة التعقيد والإرهاق، حتى وجدوا ضالتهم المنشودة وغايتهم المطلوبة. وهنا تلتفّ معظم حالة الثقة العربية لدى الكثيرين حول نفسها، فبدل شعور التمجيد والتكريم وأصوات الشكر والثناء والعرفان الموصول، لمن أنجزوا المهمة وأنتجوا المراد حتى لو كان ذا ثمنٍ وله مقابلٌ يُدفع، عادت نبال التشكيك والتخوين تنطلق من أقواسها مجدداً. فاللقاح الذي تتبارى فيه كبرى المجتمعات المصنّعة لحقنه في أجساد شعوبها أولاً وقبل غيرهم، أصبحنا نحسبه مذاباً بالشرائح المسيطِرة للهيمنة على مدننا وقرانا وسفننا الفضائية! وأصبحت شهور كفاءته ربما المعدودة لا تُرضي فضولنا ولا تُشبع بروتوكولات أهوائنا، وغدا أعداء التباعد الاجتماعيّ وخصوم الكمامات الواقية يُبحرون في غياهب وطلاسم دراسة الأعراض الجانبية! ربما أمعنت الكثير من الدول في مصالحها على حساب غيرها اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً، لكنّ قاطرة العلم ربما يحق لصانعيها قيادتها قبل غيرهم شئنا أم أبينا، وإلى متى سنبقى نتوارى خلف ضعف حيلتنا ورحابة خيالنا، فشككنا بغيرنا وغرقنا في شكنا حتى أصبحنا نشكّ في أنفسنا...!