لا يمتلك لبنان أي فرصة من فرص الحظ.. تحاصره العُقد من جميع الاتجاهات، وطالبو الثأر من الداخل والخارج. وطهران التي ترى أن طريق تحرير القدس الذي تزعمه، يجب أن يمر بالأراضي اللبنانية، والبندقية الإيرانية الطائفية حاضرة على الطاولة في كل مشهد سياسي، أو شعبي.. والتبعية التي خلفها السوريون بعد أن غادروا لبنان حاضرة في المشهد اللبناني، نقلتها دمشق منها إلى أجندة إيرانية. وبات حزب الله يملك السلاح، ويتقاسم المال مع الأحزاب الأخرى، وكأن التبعية لن تنقضي من الحياة السياسية اللبنانية. باتت الأحزاب تابعة لحزب الله، التابع في أساسه للفكر الإيراني السياسي المتطرف بقوة السلاح. والبحر الذي يعوم على مليارات الهكتارات من الطاقة والغاز، وللبنان جزء هو الأكبر منه، تحوم فيه الطوافات الإسرائيلية، وفي سمائه طائراتها المقاتلة، لا أحد في بيروت لا سياسي ولا قومي ولا عروبي ولا بعثي ولا مقاوم، يمكنه التفكير في التنقيب عنه. والكذب والتدليس تقتات عليه فئة سياسية في لبنان، فهم يكذبون كشرب الماء وتنفس الهواء. تعيش تلك الفئة على عقول المكذوب عليهم بالوحدة والقومية والمقاومة، منذ أكثر من خمسين عاماً لم يحقق القومجية العرب، لحقهم ما يسمى "محور المقاومة"، أي شيء يذكر، الأمر منذ تلك الحقبة الزمنية يقوم على دغدغة العواطف، والشعارات لا أكثر ولا أقل. في الفترة الحالية يتسيد تلك الشريحة حسن نصر الله زعيم ميليشيات حزب الله في لبنان، قفز على الدولة وإرادتها، وعلى الشعب. والقانون الدولي. لا أهم لديه من تحقيق أهداف الجمهورية الإيرانية التي رعت نشأته وصقلت مواهبه الإرهابية، القاسم المشترك بين كل تلك الحالات السابقة هو الوقاحة والقبح السياسي والأخلاقي. أراقب ملف هذه الدولة الصغيرة، وأتفهم دهاليزه وعُقده الطائفية والسياسية والاجتماعية، أجد متعتي في التمعن به، وبمتابعة حسن نصر الله أيضاً، لعلي أفهم كيف يمكن لبعض البشر الاستمرار بالكذب. هو يعلم أنه يكذب، والمتلقي يعلم أنه يكذب، مؤيدوه ومعارضوه يعلمون أنه يكذب، وتبقى الأذهان مفتوحة لذلك الكذب. قبل أيام في كلمة متلفزة، عبَّر نصر الله عن فرحته الغامرة بما سماه سقوط ترمب من إدارة البيت الأبيض، كان منطلق الفرحة التي شعر بها ليس النزاع الذي نخر في جسد عراب الإمبريالية التي تتزعمها واشنطن ويناهضها المقاومون العرب، أو "المقاولون العرب" كما أحب تسميتهم بسبب الانتخابات الرئاسية، إنما نتيجة أحقاد دفينة بنفس السيد، أساسها مقتل من سماهم "شهيدين"، ونسميهما "إرهابيين"، قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، اللذان ذهبا ضحية غارة جوية أميركية محكمة استهدفت موكبهما في بغداد. ردد نصر الله مفردة "مقاومة" في كلمته عشرات المرات، ولم يأتِ لا من قريب ولا من بعيد على ذكر الدولة، لا أعلم ما موقف الدولة من حزب أسس دولة داخل الدولة، من خلال تكريس مفهوم أن لبنان يقوم على معادلة "جيش، وشعب، ومقاومة". في ذلك المفهوم تفسير واحد بالمطلق، وهو أن حزب الله يملك حق التصرف بالجيش والشعب والمحور المؤيد له، وهذا يعني في الوقت ذاته إلغاء الدولة، وأن الدولة تمثلها عصابة تعمل من مخبئها جنوببيروت. يقول الرجل "على محور المقاومة أن يكون على جاهزية عالية لرد الصاع صاعين بحال أي حماقة أميركية أو إسرائيلية ترتكب خلال الشهرين القادمين"، ماذا يعني ذلك؟ يعني أنه تجاوز الدولة ويمكنه التصرف بمفاصلها، وقفز إلى امتلاكه قرار الحرب، وهو قرار لا يمكن لشخص التفرد به في جمهورية يحكمها نظام ديمقراطي كلبنان. في دولة مثل لبنان تعاني هشاشةً في السياسة الخارجية، والداخلية، والنظم الاجتماعية، والصحية، لا يمكن لها أن تتخطى كل تلك الإخفاقات في ظل وجود طرف يستقوي بسلاحه على الدولة والقانون والشعب، وفي دولة كلبنان لا يمكن لها أن تكتسب صفة الدولة في ظل وجود طرف يعمل للخارج متجنباً مفهوم الوطن، ويعمل من أجل مصالحه ومصالح الخارج، وليس مصالح الدولة العليا. وفي دولة كلبنان تشهد حروباً بين الأطراف السياسية بزعامة حزب الله الإرهابي حتى على رغيف الخبز، لا يمكن أن تستقيم الأمور إلا بعد نحر حالات الشذوذ السياسي الذي يكرسه الحزب بزعامة نصر الله، ومعاونه التيار الوطني الحر بقيادة جبران باسيل. على ذكر باسيل فقد امتدحه نصر الله واعتبر أن مواقفه يبنى عليها المستقبل! مستقبل لبنان السياسي يبنى على مواقف شخص فرضت عليه واشنطن قبل أيام عقوبات لدعمه الإرهاب المتمثل في مواقفه مع الحزب! لا يمكنني فهم كيف للعقلية المريضة التي تحكم حسن نصر الله أن تنظر لمستقبل اللبنانيين، وكيف لمن تأسست حياته منذ نعومة أظفاره على الأحقاد الطائفية، وتسيد في قاموسه اللغة المصلحية الطائفية وليس الوطنية، أن يعي ماذا يعني الوطن؟ وكيف يمكن لرجل طائفي تلطخت يداه بالدماء أن يتصور كيف ستتم كتابة تاريخه السياسي والإنساني على صعيد، وتاريخ لبنان في صعيد آخر؟. أعتقد أن أهم العقد التي يعانيها لبنان واستفاد منها أمثال نصر الله وغيره، غياب مفهوم الدولة على حساب صعود نجم الطائفة، وأتفهم كيف استفاد من التقسيمة الطائفية التي شكلت لتأسيس لبنان بعد خروج المحتل الفرنسي، وانتهاء حقبة الحرب الأهلية، واعتبرت سياسياً نظاماً أشبه بالميثاق الجامع لجميع الطوائف الثماني عشر في لبنان. قفز الرجل على ذلك وصنع دولةً داخل الدولة، وفهم اللعبة مبكراً، فالدولة لا تعني له إلا وعاءً سياسياً يعود له المتقاتلون بعد تسيد رائحة بارود البنادق، وبعد قتل بعضهم بعضا. لذا يفتقد نصر الله الشعور بالوطنية على حساب الطائفية، والطائفية والطغيان وجهان لعملة واحدة. لذا استفاد من الحالتين، الطائفية والطغيان، وأصبح طائفياً بامتياز، ومُجرماً باليقين المطلق.