لطالما كان مفهوم الحفاظ على الهوية والشخصية الوطنية الشغل الشاغل لبال كل الأمم المتقدمة والنامية على حد سواء، لا سيما في ظل مفاهيم الانفتاح والعولمة وثورة المعلومات والاتصالات التي ألقت بظلالها على المكونات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والأمنية لشعوب هذه الدول، انطلاقا من كون الهوية هي جذور المجتمعات وذاكرتها، وهي بالتالي حافظ استمرارها وبقائها، ومخزن معرفتها وحكمتها، وبوصلة توجهها وملهمة عبقريتها وإبداعها. لذلك سعت المملكة ولا تزال منذ توحيدها على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، طيب الله ثراه، وصولا إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، حفظه الله، إلى أن تصنع للهوية الوطنية السعودية حضورها، وتعزز سماتها وخصائصها التاريخية والجغرافية والتراثية والنفسية، بما يتواكب مع مطالب التغيير والتحديث والإصلاح، وفي الوقت ذاته إعطاؤها تميزها الذي تراعي القيم الإسلامية والوطنية من أجل خلق جيل واعٍ تربط جذوره العريقة بتعاليم دينه، وتتماشى مع توجهات وطنه من جهة، وبحركة البناء والتطور والتحديث من جهة أخرى، بحيث لا يكون انفتاحه على العالم على حساب هويته الوطنية. ولعل تطور وتعزيز الهوية السعودية كان أحد البرامج المهمة التي أعلن عنها مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، لتحقيق رؤية المملكة 2030، وقد جاء إطلاقه تأكيداً على حرص خادم الحرمين الشريفين المستمر واهتمامه الكبير ببناء الإنسان السعودي، وتنمية هويته الوطنية وتعزيز شخصيته المميّزة، والحفاظ على سلامتها من الأخطار التي تهدده ومعالجتها قبل أن يستفحل أي داء قد يصيبها -لا سمح الله- ومن ثم يستعصي الشفاء. والواقع أن التحديات التي يشهدها العالم اليوم تتطلب منا ضرورة إعادة تشكيل الهوية الوطنية بما يتواكب مع المتغيرات، وفق وعي عميق بالتاريخ وتقدير واقعي للحاضر، وإدراك لما هو مطلوب في المستقبل، وفي رأيي فإن القيادة السعودية أحسنت صنعا بإطلاقها لهذا البرنامج المتفرد والنوعي الذي يقوم على تعزيز الشخصية السعودية وفق مجموعة قيم ترتبط بإرث المملكة وعناصر وحدتها ومبادئها الإسلامية الوسطية الصالحة لكل زمان ومكان، من خلال منظومة مبادرات تكاملية من شأنها قيادة وتحفيز الأفراد نحو النجاح والتفاؤل، حتى يصبح لدينا اقتصاد سعودي أكثر ازدهارا ومجتمع أكثر حيوية، متمسك بالقيم الإسلامية وبالهوية الوطنية. أهم ما يميز هذا البرنامج أنه بني على محددات ومحاور ومؤشرات للتنفيذ، منها ما هو داخل المملكة ومنها ما هو خارجها، لا سيما فيما يتعلق بنسبة الانطباع الإيجابي عن المملكة في الخارج وفي تصحيح الصورة الذهنية غير الحقيقية عنها خارجيّا، وإيصال ما حققته ولا تزال من منجزات للعالم الخارجي، فضلا عن التعريف بالدور العالمي الذي تلعبه، باعتبارها قلبا للعالمين العربي والإسلامي. وعلى رغم أننا في المملكة لا نواجه -والحمد لله- أزمة هوية، إلا أننا بحاجة إلى تعزيزها لدعم التحولات النوعية للتطوير والتحديث والإصلاح الذي تشهده بلادنا، وهو ما سيتحقق من خلال هذا البرنامج الذي يتضمن 15 هدفا مباشرا و10 أهداف غير مباشرة، تتسم كلها بالتداخل مع المؤسسات التعليمية، والدينية، والاجتماعية، والإعلامية، والعمل وقطاع الأعمال، والصحة، بشكل يسهم في بناء الاقتصاد الوطني، ويرسخ المنجز السعودي الفكري والتنموي والإنساني للمملكة، ويتفاعل مع توجهاتها ودورها الريادي. ويأتي في مقدمة أهداف البرنامج المباشرة تعزيز القيم الإسلامية التي ترسخ منهج الإسلام الوسطي المعتدل، من خلال التركيز على تعميق قيم الولاء والانتماء الوطني والوسطية والتسامح والإتقان والانضباط والعدالة والمساواة ونبذ العنصرية والتعصب، وتطبيق الشفافية والعزيمة والمثابرة وحرية التعبير التي لا تتعدى على حرمات الآخرين، والتفاعل الإيجابي وتغليب المصالح العامة. كما تضمن البرنامج عشرة أهداف غير مباشرة تتحقّق بالشراكة مع البرامج الأخرى، منها تعزيز مشاركة الأسرة في التحضير لمستقبل أبنائهم، بما في ذلك التعليم وتنظيم الأسرة، إضافة إلى تحسين الظروف المعيشية وظروف العمل للوافدين، وتوطين الصناعات الواعدة، وتوطين الصناعة العسكرية، ورفع نسبة المحتوى المحلي في القطاعات غير النفطية، ورفع نسبة المحتوى المحلي في قطاع النفط والغاز، إلى جانب المحافظة على تراث المملكة الإسلامي والعربي والوطني والتعريف به. ولأن العصر الذي نعيشه هو عصر إثبات الوجود، بل هو عصر الهويات، فمن لا يحافظ على هويته فقد أهم شروط كينونته، فإن برنامج تعزيز الشخصية السعودية جاء في وقت نحن في أمسّ الحاجة له، لما له من أهمية كبيرة في المرحلة الحالية والقادمة لوطننا العزيز، وكلي أمل وتفاؤل أن يحقق الأهداف المأمولة بتوعية جيل الشباب الذي يشكل الغالبية العظمى من المواطنين السعوديين، بالقيمة العظمى لمقومات الهوية الوطنية وفي مقدمتها الاعتزاز بالدين الإسلامي والحضارة الإسلامية واللغة العربية، وبمكانة بلادهم الدينية والجغرافية والتاريخية والاقتصادية والسياسية، بما يجعلهم قادرين على مواجهة كل المهددات الأمنية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والدينية، متسلحين في ذلك بتمسكهم بعقيدتهم الإسلامية السمحة وثوابتهم ومبادئهم الوطنية والقومية، وفي الوقت ذاته غير منغلقين أو متعصبين أو رافضين للآخر، بل أكثر استعدادا للانفتاح على هويات أخرى.