على مر العصور كانت هناك العديد من القرابين البشرية التي تُذبح وتُقدم إلى الآلهة بقصد تهدئة غضبها أو استلطافها أو بهدف جلب الخير منها، سواء كانت قرابين بشرية أو حيوانية، فالقربان ضحية في طريق التغيير المراد إحداثه والعربون الذي يتم دفعه في أولى خطوات التغيير نحو الهدف المنشود، فالقرابين وسيلة الضعفاء وقليلي الحيلة في حوائجهم، كما هي وسيلة العظماء والمصلحين في نهضتهم وللسياسيين والاقتصاديين للوصول إلى أهدافهم. أحداث العنف التي اجتاحت كثيرا من المُدن الأمريكية بسبب مقتل جورج فلويد المواطن الأمريكي من أصل إفريقي في 25 مايو في مدينة منيابولس بولاية مينيسوتا، أثناء تثبيته على الأرض بغية اعتقاله من قبل الشرطة، وقيام الضابط «ديريك تشوفين» بالضغط على عنق فلويد، لمنعه من الحركة أثناء الاعتقال لأكثر من سبع دقائق، والضحية يردد «لا أستطيع التنفس»، وبانتشار مقطع تصوير الموقف اندلعت الشرارة وعمت الفوضى والاحتجاجات والتخريب والسلب، وتطورت إلى الحد الذي استعانت فيه الإدارة الأمريكية بقوات الحرس الوطني لتهدئة الأوضاع في العديد من الولايات بعد أيام على أعمال الشغب، وفشل الأمن المحلي في السيطرة عليها. لقد اتخذت العديد من المؤسسات الأمريكية وقادتها وحزبيها في المعركة الانتخابية القادمة بين الجمهوريين والديمقراطيين والمنظمات الحكومية والمستقلة وبعض فئات الشعب الأمريكي، وأرباب الاقتصاد وأنصار العولمة الرأسمالية والمناهضين لها والعاطلين عن العمل جراء جائحة كورونا والفقراء، والمتضررين من قوانين الهجرة والضرائب ونقص الخدمات والرعاية الاجتماعية، وبعض الدول والأنظمة المعادية للولايات المتحدة وسياساتها الخارجية، جورج فلويد، قربانا لها في قضاياها التي تطمح للوصول إليها وتحقيق المنفعة منها، ورأت أن مشهد خنق رقبة جورج فلويد يستطيع أن يُعيد قضيتها للصدارة، ويتم تحقيق الأرباح منه كقربان على مائدة آلهتها وفرصة ثمينة لاستثمارها على مستوى الداخل الأمريكي وخارجه. فالاقتصاد الأمريكي وجد ضالته في مقتل فلويد واندلاع الأحداث والتخريب، وإن عجلة الاقتصاد تحتاج إلى قربان كي تتحمل شركات التأمين نتائج ما حدث من تخريب ونهب وعودة دائرة الأعمال والإنتاج والتصنع إلى ما كانت عليه. والانتخابات الأمريكية في نوفمبر القادم والتحضير لها كأهم حدث سياسي بحاجة إلى قربان لتحريك الشارع والناخب الأمريكي، الذي أصابه الاكتئاب من جائحة كورونا وانزواءه وانشغاله بسلامته وصحته كأولوية أمام تحريكه في لعبة معركة الانتخابات كحمار ديمقراطي أو كفيل جمهوري. ومناهضو العنصرية والتمييز بحاجة إلى قربان ليدعم تحركاتهم القانونية والحقوقية في سجل صراعهم المرير، والإعلام الأمريكي بحاجة إلى تعويض بريقه وخسائره بقربان يُقدمه كمادة إنسانية للحقوقيين وسياسية للحزبيين واقتصادية للشركات، والإدارة الصحية في أمريكا بحاجة إلى قربان كي تكسر حاجز الخوف الذي أرعب المجتمع الأمريكي من جراء الحجر الصحي وعودة الحياة، وأصحاب البشرة البيضاء في أمريكا بحاجة إلى قربان يبرر أسباب كراهيتهم للسود ليرى العالم مَن هم أتباع فلويد وماذا فعلوا بعد مقتله، والأمريكيون من أصول إفريقية وبشرة سوداء بحاجة إلى قربان يُفجر غضبهم نحو المطالبة بحقوقهم، وأعداء الرأسمالية الأمريكية في العالم الذين لا يهمهم ما قضية فلويد وما ديانته وانتماؤه بحاجة إلى قربان أمام شعوبهم وأيديولوجياتهم وصراعهم مع الشيطان الأكبر للنيل منه. فالغريب أن يقبل الجميع قربانا واحدا من كل الفرقاء وتتشارك فيه، والكل يتخذه عنوانا ومحورا لقضيته، فجورج فلويد قربان استغلته جميع القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وطلبت من أتباعها المشاركة في الأحداث الأمريكية وكلٌّ يُغني على ليلاه بطريقته ويتمنى أن يستثمره لمصالحه، حتى فرَّق القربان بين المتخاصمين والغاضبين وشتتهم، فالمجتمعات البشرية كُلما سقط قربان في مسيرتها خسرت أكثر مما هي عليه، وزادت القوى المهيمنة في طُغيانها وظُلمها وجشعها، فمشكلة مجتمع القطيع والمستضعف أنه ما زال لا يُحسن الاستثمار في توجيه قرابينه نحو أهدافه، ويضعف أمام لحظة عاطفته وأنانية مصالحه الشخصية، ويؤكد للرأي العام أن قضيته لا تستحق أن تتنفس.