درجت العادة أن يكون رمضان المبارك ميدان تنافس بين الفضائيات، لاستقطاب المشاهد خلال الأعمال الحصرية بمختلف أنواعها. ولكن وسط الزحام تحتفظ البرامج الدينية بنكهتها المميزة، لرسالة التفقيه والتوعية الدينية التي تقدمها. برنامج «بالتي هي أحسن» كان مفاجأة البرامج الدينية في رمضان 2020، إذ كان الأكثر متابعة، جاء مميزا بالطرح العميق والرصين والشفافية، في قالب عصري، فضلا عن أهمية توقيته في مرحلة تُعدّ من أخطر المراحل التي نعيشها، لا سيما في ظل المشكلات التي اعترت الخطاب الإسلامي اليوم، من تطرفٍ وتصنيف وإقصاء، حاملا رسالة الخطاب الإيجابي الذي يصل إلى المقصد الشرعي، مبرزا صورة ذهنية إيجابية حقيقية للإسلام الوسطي المعتدل، إضافة إلى إحياء وإعلاء القيم الإسلامية التي تدعو إلى تفهّم سنّة الله تعالى في تنوع الكون واختلاف الخلق. القائمون على البرنامج وُفّقوا في اختيار العنوان الأمثل: «بالتي هي أحسن»، والذي تم استقاؤه من قوله تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن». وأيضا في اختيار مقدمه المميز عبدالوهاب الشهري، وتميزوا في انتقاء ضيفه الدائم الدكتور محمد عبدالكريم العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس مجلس هيئة علماء المسلمين، الذي برز كمسؤول دولي يرأس منظمة دولية تعنى بقضايا الحوار والتعايش والتسامح بين الأديان، وبين الشعوب والقوميات، فقدم لنا بأداء مميز، وأسلوب علمي متجدد، رؤيةً فكرية متنورة وسطيّة، تترجم أهداف الرؤية التي تتطلع لتكون المملكة دولة تَسعُ الجميع بتقبل الآخر، دستورها الإسلام ومنهجها الاعتدال. أعتقد أن البرنامج نجح طوال حلقاته في مناقشة كثير من القضايا الإسلامية المعاصرة، التي لا تُناقش عادةً في البرامج الدينية، فقد أعاد تعريف مصطلح الأقليات والجاليات الإسلامية، وشرح سبب تصاعد وتعقيد ظاهرة الإسلاموفوبيا، وتناول المشكلات التي اعترت الخطاب الإسلامي، وكيف أن لحمة المجتمع الواحد تتأثر بفعل أطروحات التشتيت والتفرقة، التي يقودها متطرفون يرغبون في الاستفراد بالرأي، وينبذون كل من يحاول مناقشتهم وفضح أساليبهم في سوق الأكاذيب والافتراءات على المختلف، ويرشد إلى الطريقة الصحيحة للتعامل مع هذه التيارات المتشددة. كذلك تطرق البرنامج إلى قضية الصراع الطائفي، وتحريم الاعتداء على دور العبادة. ومواكبةً لما يعيشه العالم من أزمة كورونا، فقد ركز البرنامج على المعضلة الحالية لهذه الجائحة، وناقش سبب تعليق صلوات الجماعة، وعلاقة التوكل بالأخذ بالأسباب، وأجاب عن الأسئلة التي تخطر في أذهان الجميع، من ناحية صلة الرحم. أيضا، دعا البرنامج إلى أهمية الإعلاء من قيم الإيمان والمواطنة، والوعي، والتفاعل الإيجابي مع الآخر، بعيدا عن التمييز والعنصرية والطائفية. كامرأةٍ، سعدتُ وأنا أشاهد إحدى حلقاته التي خصصها لقضايا المرأة المسلمة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة في التعامل معها، والرد على الخطاب الذي يتهم التشريع الإسلامي بالإساءة إليها، إذ حرص خلالهما الدكتور العيسى على تعزيز مفهوم تمكين المرأة في الشريعة الإسلامية، والذي يؤكد إعطاءها حقوقها كافة، وإتاحة المجال لها لممارسة دورها، وتأثيرها الكبير في مختلف مهام المسؤولية والخدمة الوطنية. لا شك أن ما تشهده أمتنا من مرحلة ضبابية مليئة بالتصادمات والانقسامات والاختلافات على مختلف الأصعدة، باتت بحاجة إلى مصابيح لكشف الدجى عنها، من خلال حوار إيجابي بنّاء مع الآخر، لذا فإننا نعول كثيرا على مثل هذه البرامج القيّمة، والاستفادة منها في بلوغ الغاية السامية، ومعالجة كثير من المشكلات والأزمات، فهي بالتأكيد السبيل الأمثل إلى الحوار البنّاء، ومواجهة الأفكار الضالة المضلة، التي سعت في عقول الناس تخريبا، وشوّهت المفاهيم الإسلامية الناصعة القائمة على التسامح التي رسّخها الإسلام، وهذا بالتأكيد سيشكّل مناعة قوية للمرحلة المقبلة، لتجنيب أمتنا كثيرا من المآسي بسبب مخاطر الفكر الضال، الذي شكّل ويشكّل تهديدا كبيرا في استقرار الأمم.