لم يشهد أي من السعوديين الأحياء، حدثا من الأحداث والمجريات كما يشهدونه ويعاصرونه مع فيروس كورونا المستجد. عاشت السعودية بالعموم في بحبوحة من العيش الرغيد، وما زالت -بحمد الله- ومضت السنوات والبلد صُلب العود، متين الإهاب، تجاه الأحداث الجسيمة التي مرت به، وكان الاعتماد فيها على جهود الحكومة وقدراتها فقط، أما اليوم فالوضع مختلف تماما، حيث يقع على عاتق المواطن حمل ثقيل في المساهمة الفاعلة للقضاء على الأثر المدمر لهذه الجائحة على الأرواح والمقدرات، فأضحى على المواطن أن يواجه نفسه، ويردعها، ويقف لها بالمرصاد، لأن أكبر شلل يحدث للجهود الجبارة والعظيمة -التي نراها تسطر أمامنا، وكأن التاريخ يكتب على مشاهدنا وشهاداتنا- هي بسبب المواطن الذي يعجز عن التزام بيته، والكف عن تناقل الإشاعات، فالتزام البيت، وقتل الإشاعات في مهدها أعظم جهد يمكن أن يقدمه أحد في هذه الأزمة. (الوعي وزاوية النظر) الوعي له دور كبير في تجاوز الأزمات، والوعي لا يتطلب ثقافة أو مقدارا معينا من العلم والمعرفة، بل ربما كان بعض من لا يقرأ ولا يكتب أكثر وعيا من كثير من المثقفين الذين يملؤون الدنيا ضجيجا وجعجعة، فالوعي نوع من الحكمة التي يؤتها الإنسان، حسب تناغمه الروحي والنفسي مع ذاته، وتمازج هذا التناغم مع العامل الخبراتي في الحياة، ولذلك فمن الوعي في هذه اللحظة الراهنة، وهذا الاستثناء التاريخي الذي يمر به العالم، تغيير زاوية النظر لأفراد المجتمع عامة، والانتقال من رؤية الأزمة من داخلها، والغرق في أخبارها وتفاصيلها ومشاكلها، إلى التسامي فوقها ورؤيتها من الخارج، والنظر في إيجابياتها الكثيرة. في بدايات الأزمة عشنا بما فيه الكفاية داخل المشكلة، وأدركنا جميعا جوانبها، ورأينا إلى أين يتجه مسارها، بل حددنا حتى نهاياتها، واتخذت الأجهزة التنفيذية المعنية كل الاحتياطات اللازمة لتجنب الأسوأ، وبقي الأمر منصبًّا على مدى وعي الناس وإدراكهم، وهذا يتحسن باطراد يوما بعد يوم، والدليل عليه هذا الوعي الجمعي بحجم المشكلة وأبعادها وتطوراتها، وطرق تلافيها. وكلمتي للقلقين من «كورونا»: إنني على ثقة بأننا سننجو -بمشيئة الله- وسنتذكر كل هذه الأحداث، وسنقرأ مشاهداتكم أو نسمع «سواليفكم» عن زمن كورونا الذي مضى، كل ما عليك في هذه الفترة: اتبع تعليمات الجهات المختصة، ولا تخرج من بيتك، وقم بالإجراءات الاحترازية والوقائية داخل منزلك، ولو شعرت ببعض الأعراض التي تم إيضاحها بعمق من قبل المختصين، فما يجب عليك فعله هو البعد عن مخالطة القريبين منك، والاتصال بالرقم المخصص ليتم التأكد والاطمئنان على صحتك، وإن تم تشخيصك مصابا بمرض كورونا فثق أن أفضل رعاية صحية ممكن أن تقدم لك في العالم هي في المكان الذي أنت فيه، في أي جهة كنت من السعودية، وسوف تتجاوز المرض وتتعافى منه، بحول الله. (المحن التي في طياتها منح) جربنا الرخاء كثيرا وطويلا وعميقا، ولا بأس من المرور في حال شدة وبلاء نحن لا نطلبه ولا نريده، وندفعه بكل ما أو تينا من قوة، ولكن إذا وقع فلن يكون شرا محضا، ومع ثقتي بزوال هذه الجائحة سريعا إلا أنني على يقين أنه لو طال أمدها سنكون بأمان تام متى ما تعاملنا مع الأزمة بمستوى وعي يواكب الحدث وحجمه، وأننا كأفراد سنخرج أقوى، وسيتعافى مجتمعنا من أدواء كثيرة مرهقة للمواطن والدولة على حد سواء بسبب أثر هذه الأزمة على الأفراد والمجتمع، وسوف تتعزز لدينا سلوكيات مهمة، وسنجني فوائد جمة من هذه المحنة، وهذا لا يعني أن الأزمة ليس لها أثر سلبي، فلا أنكر أثرها الفادح على اقتصاد البلد مثلا، ولكن هذا قدر الوطن الذي يحب أبناءه، وثقتنا كبيرة وغير منتهية بقدرة صناع القرار على تجاوز هذا العارض لنعود أقوى مما كنا. ونحن نرى أبطال القطاع الصحي يسيطرون على الوضع العام لهذه الجائحة داخل المملكة بما يثير الإعجاب ويدعو للفخر، لندع التفكير بالسيئ والأسوأ ونتدبر المعاني الإيجابية في هذا البلاء، والتي أوجزها في الأفكار الآتية: أولا: سأشرح في مقدمة هذه الإيجابيات، كون الأزمة قربت المواطن من قيادته أكثر من ذي قبل، وقربت القيادة من مواطنيها، وأعطت الدليل حيا غضًّا على صدق الحب والولاء المتبادل بين الطرفين، خصوصا ونحن نرى تفاني الحكومة مع رعاياها في الداخل والخارج، بما لا يتكرر في أي مكان في العالم، وفي أي دولة أخرى مهما كبر حجمها وعظم أمرها. ثانيا: لقد أتت هذه الجائحة لتبطئ من تسارع عجلة الحياة، وتؤجل مسيرة العيش بخيرها وشرها، وهمومها وأكدارها، الأمر الذي يجعلنا نستشعر معنى الحياة على مهل وعلى مكث لنتذوق طعمها ونشم رائحتها، وهذا البطء، وما صاحبه من عزلة، سيجعلنا نركز على أمر الخروج من هذه الأزمة بسلام، وننسى كل ما حولنا من ظروف أخرى، وهنا فرصة عظيمة للروح والعقل، على إعادة ترتيب أوراقهما من جديد، وبناء مسيرتهما لشكل مختلف قادم من الحياة، أو بمعنى أدق للمتبقي من الحياة. ثالثا: استعادة اكتشاف الحياة الخاصة من جديد، ففي هذه العزلة سيكتشف (المرأة/ المرء) نفسه مرة أخرى، سيكتشف هواياته ومواهبه الجديدة التي لم يتسنَّ له اكتشافها من قبل، وذلك بناء على ما تراكم له من خبرات، حيث إنه في زمن الشباب اكتشف مواهب معينة تغيرت وتطورت وهو لا يعلم عنها ولم يتوقف يوما ليتحسسها، اليوم حان هذا الوقت لاكتشافها. رابعا: هذه الأزمة ستجعلنا أكثر إنسانية وأكثر روحانية وأكثر سموًّا، وستجعلنا أكثر جمالا وأكثر عقلانية وأكثر منطقية وأكثر جدية، وربما لا ندرك ذلك الآن، ولكن بعد انقضاء هذه المحنة ستتضح وبجلاء تام كل هذه الأمور. خامسا: ستكتشف في الدائرة الضيقة من أسرتك التي تخالطها بشكل يومي ما لم تعرفه من قبل. سادسا: ستجعلنا هذه الأزمة مجتمعا أكثر تماسكا وتكاتفا بين مكوناته المختلفة وأكثر تقاربا. سابعا: ستولد هذه الأزمة لدينا عادات وممارسات صحية جديدة كثيرة، وستولد لدينا سلوكيات اقتصادية للأفراد والأسر على مستوى الاستثمار والتوفير والادخار. ثامنا: ستولد هذه الأزمة إجراءات واحتياطات واحترازات على مستوى الدولة ستسهم في تطوير مستوى جودة الحياة، لأن الدولة -أعزها الله- ستكون قد فحصت قدراتها واستعداداتها من خلال أزمة لا تمر إلا كل مئة عام مرة. (ما قبل الأخير) الإيمان بالقضاء والقدر، ثم الصبر عليه، والرضا به، ضمانة نفسية وروحية، وهو أمر عقلي ومنطقي، لأن الكون يجري وفقا لناموس لا يتغير ولا يختل مهما قال تجار الوهم ووعاظ الزيف، وحينما نحاكم ما يجري في الكون على أساس ثنائية البلاء والابتلاء، فإنما هو تألٍّ على الله تعالى، وسفه وضعف إيمان.