كنت قد قاربت حالة الضعف التي سادت المشهد الثقافي خلال العقد الأخير من زمن الثقافة (في مكونيها: الرواية والنقد)، بقي فقط الإشارة إلى السبب الرئيس الذي يمكن أن يفسر اعتماد عبده خال على المتن الحكائي بالأحداث، والصوت الواحد، ثم تكرار البيئة والطابع العام والشخصيات والمضامين، فربما كان عبده يختزن من الأفكار الملحة لمواجهة التطرف الديني، والرغبة الجارفة لتسجيل ماض يزدهر في وجدانه، باعتباره الزمن المفعم بالنقاء والفرح والبساطة. هذه الأفكار كانت تمور بتوتر هائل في عقل عبده، لذلك فإن البوح بها بأسرع وقت ممكن هو السبيل لإعادة التوازن النفسي والذهني له، والكفيل أيضا بإسكان ذلك التوتر الروائي الذي يعيشه بصدق، خاصة أن ذلك الهاجس يمكنه من كتابة أكبر قدر ممكن من الروايات (هل لاحظتم أن الروايتين الأخيرتين له صدرتا في العام نفسه 2019؟!)..تذكرت في هذه الأثناء الروائي الهائل كطود (صنع الله إبراهيم)، الذي كان ينهمك على تسجيل الأرشيف المعلوماتي لروايته القادمة أربع سنوات على الأقل، ثم يكتب روايته بعامين تقريبا!! أخيرا.. بقي أن أشير إلى استثناء (مهم) من حالة الضعف تلك، يجب إثباته لعملين روائيين حقيقيين، كان جليا أن الكاتبين قد اشتغلا بجد، لصياغة روايتين ذات أبعاد فنية متعددة. (ربما يأتي الحديث عنهما لاحقا)، وهما: (موت صغير) لمحمد حسن علوان 2016، و(مسرى الغرانيق) لأميمة الخميس 2017. (1) أما بعد..فسأقارب حالة الضعف والترهل في المكون الآخر للمشهد وهو (النقد المشتغل على أكثر الفنون الأدبية رواجا وتأثيرا): أول ما يقال في هذه الأثناء أن ضعف المشهد النقدي لم يقتصر- مثل ما كانت عليه رواياتنا المحلية- على العقد الأخير من الزمن، بل إنه يتجاوز ذلك العقد إلى عقد سابق آخر! فبعد تحول الغذامي والسريحي إلى النقد الثقافي، وانهماك البازعي في دراسات أدبية وفكرية شتى، لم تجعل خطاب الرواية لديه ذا أهمية، وانتقال الهاجس المعرفي لمعجب الزهراني من الكتابة النقدية إلى الذاتية، ثم انتقاله الكلي إلى باريس مرة أخرى. لا نجد خطابا نقديا واضح المعالم محدد المنهجية بالغ التأثير، يمكن أن يمثل تطبيقات منهج نقدي ما، أو أن يعد مرحلة جديدة في النقد تواكب تألق المشهد ذاته في الثقافة العربية والعالمية، سوى بعض الاجتهادات المتناثرة وقد كانت تفتقر للجدية والعمل المؤسساتي الرصين، والتي كان يكتبها محمد العباس وفيصل الجهني ومحمد الحرز! (2) ثمة ملاحظتان جليتان تبرزان من بين تجليات الخطاب النقدي خلال العشرين عاما الماضية، أولهما التكرار الفج لأسماء بذاتها في (جميع) الملتقيات، التي تدعي بشكل أو بآخر أن لها بتلك الأنشطة علاقة فاعلة و(صحيحة) بالفن الروائي، وثانيهما عدم وفاء تلك الأسماء بتعقيدات وتقنيات الرواية. وحتى يكون لهاتين الملاحظتين مبرر ومشروعية فلنقارب معا (ملتقى النص في نادي جدة) كأنموذج لمؤسسة ثقافية ينتج من خلالها خطابات نقدية (ومنها بالتأكيد خطاب النص الروائي)، وحسن النعمي أنموذجا آخر على نقاد العقدين (بحسب حضوره الطاغي وإنتاجه المرتبط دائما بالرواية السعودية)! (3) أما ملتقى النص فقد كان حكرا على أسماء محددة تتكرر دائما في الملتقى منذ بدايته عام 2000 ، ولعل أكثر الأسماء -على سبيل المثال- تكرارا ومشاركة في عشرة ملتقيات متتابعة (على الأقل) فهم: (حسن الهويمل وسعيد السريحي ومحمد ربيع وحسن حجاب الحازمي وحسن النعمي وسلطان القحطاني وسحمي الهاجري ومعجب العدواني وعلي الشدوي، بل إن أنموذجنا النقدي النعمي شارك في الملتقى الأول وحتى الملتقى السادس عشر والذي اختتم أعماله قبل أسبوعين فقط)..الأزمة تكمن في النظر إليهم باعتبارهم (أهل الرأي والحل) فيما يتعلق بأمر الرواية ، يقول رئيس النادي مفتخرا في لقاء صحفي 2013، بأن ملتقاه وحلقته النقدية تضم أكبر النقاد، مستعرضا نقاده الذين لا يعرف غيرهم: (السريحي والنعمي ومحمد ربيع ولمياء باعشن وسحمي الهاجري..) ليبزغ مباشرة السؤال المؤرق: هل استطاعت هذه الأسماء تقديم شيء ذي بال للرواية عامة وللرواية المحلية خاصة؟.. هل يمتلكون حقا الأدوات النقدية المؤهلة لإنتاج خطاب نقدي حقيقي، يستوعب تعقيدات الرواية وتشكلاتها على جانبي المضمون والشكل معا؟ فتأتي الإجابة مستعينة بلا النافية (المرة المريرة)!، إذ المسألة لا تعدو إلا أن تكون انطباعات ذاتية أو انفعالات نفسية بمصطلحات نقدية ملازمة دائما للمكون الروائي (كالواقع والحدث والآخر....)، تشبه النقد الانطباعي للشعر، قبل أن يحضر اسم الغذامي بمناهجه النقدية - في الثمانينات الميلادية- ثم يتبعه السريحي والبازعي....وأقرانهم الآخرون. (4) أشهر نقاد المؤسسة الثقافية الروائية حسن النعمي يتمحور إنتاجه حول الرواية وبعض النصوص النثرية التراثية، والتي ينظر إليها دائما من خلال منظورين اثنين فحسب: التاريخي، والواقعي الاجتماعي، متراوحا بين الخطاب التاريخي لمراحل الرواية، ونقد الرواية من خلال علاقتها بالواقع وتحولاته. لا يمكن أن تستطلع ما يكتبه النعمي دون أن تجد ما يقارب أو يتمحور حول جملته النقدية الأثيرة: «الرواية تتغذى على ما يقدمه المجتمع من هامش للروائي في خلق أجوائه الروائية»، كما أن مفتاحه الأثمن لولوج عالم السرديات: التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل المجتمع، ولذلك فإنه دائما ما يقع في مأزق التصنيف الكارثي (فيجعل رجاء عالم -مثلا- بإمكاناتها الفنية الناضجة في سياق واحد، يجمعها مع روائيات (الحكايات) كأمل شطا وبهية بوسبيت وصفية بغدادي!)، وذلك بسبب الافتقار إلى الأدوات النقدية القادرة على التعامل مع تقنيات النصوص وقيمها الفنية الحقيقية: (في الخطاب النقدي للنعمي غياب هائل لصيغ السرد وعلاقتها بصوت المؤلف..لتقاطعات الزمن الفني..لتخلق الشخصيات في اللحظة الروائية نفسها..لبوليفونية الأصوات والخطابات... وغيرها من الإمكانات، التي تستطيع -وحدها- التأكيد على روائية بعض الأعمال السردية، والحكم بإبعاد غيرها عن حمى الرواية). وحتى لو جاءت محاولات متنوعة لسؤاله عن تلك التقنيات، نجده يأخذ الحديث إلى منحى بعيد آخر، ففي حوار صحفي معه 2019، سئل ذلك السؤال الحاسم عن «مدى استفادة الكتاب لدينا من تقنيات السرد، منذ البدايات وحتى الوقت الراهن؟»، فكانت إجابته متواطئة مع الذين يفسرون الماء بالماء بعد جهد (رهيب): «واضح أن تجارب الكتاب بعد عام 2000 مختلفة، إذ أخذت بأسباب التقنيات الحديثة عبر العديد من الكتاب الذين تنوعت أساليبهم بحسب قراءاتهم». الإجابة -كما تقرؤون- كانت صياغة أخرى للسؤال! وربما أن ذلك الغياب المرير يفسر لنا بعض الأحكام العجيبة التي يطلقها بين الحين والآخر، كأن يقول مثلا: «إن روايات القصيبي لم تكن تقليدية، لا في موضوعها، ولا في تقنياتها السردية مستشهدا بروايتي شقة الحرية والعصفورية» ولا يخفى على أي متلق للروايتين أنهما لا تعدوان إلا أن تكونا صياغة سردية بسيطة للسيرة الذاتية، واستعراض معلوماتي بقالب سردي!!. لم تكن ثمة تقنيات فنية على الإطلاق، وبالتالي فليست الروايتان جديدتين (حتى في موضوعهما)! كما يزعم الناقد النعمي!