حملت الأوامر الملكية التي أصدرها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، بدمج هيئة الرقابة والتحقيق، والمباحث الإدارية، إلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وتعديل اسمها ليكون «هيئة الرقابة ومكافحة الفساد»، دلالات كثيرة، في مقدمتها أن الحرب التي أعلنها -حفظه الله- على مكامن الفساد المالي والإداري باتت هدفا رئيسيا لكل الأجهزة ذات الصلة، ودخلت مرحلة جديدة امتدادا للجهود الرامية إلى تعزيز نهج الشفافية، ومحاربة الفساد بكل أشكاله، ماليا وإداريا، وترسيخ مفاهيم جديدة في المجتمع، أبرزها أنه لا كبير على القانون، ولا يوجد من هو فوق المحاسبة، وأن يد العدالة ستطال كل مفسد. كذلك، فإن هذه الخطوة ذات أبعاد عميقة، ولها كثير من الفوائد التي سيظهر أثرها في المنظور القريب، فهي تختصر كثيرا من الإجراءات وتوفر الوقت بدلا من إهداره في إجراءات بيروقراطية، أو في التنقل من إدارة إلى أخرى لاستكمال الإجراءات المطلوبة، كما تمنح القرارات النيابة الحق بالتحقيق في جرائم الفساد المالي والإداري ببعض المناطق التي لا توجد فيها فروع للهيئة. وكذلك تمنح رئيس الهيئة الجديدة صلاحيات واسعة، تصل حد المطالبة بفصل المسؤول الذي تثبت التحريات تورطه في قضايا الفساد، إضافة إلى إمكان استجواب من تظهر على ثروته زيادة كبيرة لا تتناسب مع دخله عن أسباب تلك الزيادة، ويقع عبء الإثبات على المشتبه به، وهذا يعود بنا إلى الأثر الشهير «من أين لك هذا؟». من أبرز ما يبعث الاطمئنان على نجاح جهود استئصال آفة الفساد هو ارتباطها مباشرة بالمقام السامي، بدءا من توفير الحماية لكل من يبلغ عن وجود حالة فساد في موقع عمله، ومنع تعرضه لأي إجراءات انتقامية، مرورا بربط النائب العام وكل القرارات التي يصدرها بالملك مباشرة، وانتهاء بالهيئة الجديدة التي تم إقرارها، وهذه المرجعية تمنح جهود محاربة الفساد حصانة وحماية كافية، وتضمن توفير عناصر النجاح لها. ومن المكاسب التي ستترتب على تفعيل عملية محاربة الفساد، والتي يشرف عليها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تعزيز وترسيخ مفاهيم الحوكمة المالية والإدارية، وهو ما ستكون له آثار مباشرة في دعم السوق المالية السعودية، وتكسبها ثقة عالمية، لما لها من تأثير على مستويات تصنيف الأسواق المالية والموثوقية التي تتعامل بها البورصات العالمية، وهو ما سينعكس أيضا على إيجاد قوة دفع أكبر للجهود الرامية إلى جذب الاستثمارات الأجنبية، تفعيلا وتعزيزا لجهود إنزال رؤية المملكة 2030 على أرض الواقع. كذلك، فإن التوجه الجديد يعد حافزا للإنتاج ومضاعفة الجهود والتسابق في ميادين العطاء، فكل مجتهد سينال فرصته الكاملة، وكل مؤهل سيجد الوظيفة التي يستحقها، دون تكبد عناء البحث عن واسطة أو شفيع. ورسوخ هذا الإحساس في نفوس الشباب من شأنه أن يضخّ طاقة رهيبة في دواخلهم، تدفعهم إلى الكدّ والاجتهاد والبحث عن كل عوامل التميز وأسباب النجاح. أما المكاسب الإدارية، فهي أيضا في غاية الأهمية، إذ تمنع الترهل الإداري وتعدد الجهات ذات الصلاحية، وتحدد المسؤولية في جهة بعينها، يمكن مساءلتها في حال حدوث أي تراخٍ أو تساهل، بعد أن تم منحها كل الصلاحيات المطلوبة، وهو ما ينفي وجود أعذار. كذلك، تتيح القرارات الفرصة للاستفادة من الخبرات التراكمية للجهات الثلاث التي تم دمجها في الهيئة الجديدة، وتوجيهها في مسار موحد. كذلك كان لافتا أن هذه القرارات أتت بعد أيام قلائل من إعلان الميزانية، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن المملكة ليست على استعداد للتسامح مع من يرتضون لأنفسهم اختلاس المال العام والاستئثار به لأنفسهم، وأن الجهود التي تبذلها الدولة لا يمكن أن تضيع سدى نتيجة استهتار بعض ضعاف النفوس، وأن جميع أبناء هذه البلاد لهم الحق كي ينعموا بخيرات بلادهم كاملة غير منقوصة. كذلك لم يكن مصادفة توقيت صدور هذه القرارات مع الجهود الحثيثة لتعزيز حقوق الإنسان، فتعزيز حقوق المجتمع هو جزء من تعزيز حقوق الإنسان ويتكامل معها، إذ لكل مواطن الحق في الاستفادة من خيرات بلاده، وضمان ألا تستأثر بها فئة دون الآخرين، وألا يفقد الإنسان أيا من حقوقه لأن هناك من ارتضى لنفسه التعدي عليها ومصادرتها دون وجه حق. في اعتقادي، أن المملكة تقف أمام منعطف بالغ الأهمية في تاريخها، وهي تسير بالكامل في طريق الشفافية والنزاهة، وتعلي قيمة المحاسبة والمساءلة، وفق ما يقتضيه القانون، وهو ما يسرع انضمامها إلى كل المواثيق والتحالفات الدولية التي تتطلب مثل هذه الإجراءات. ومع استمرار الثورة التشريعية وما شهدته النيابة العامة من تعزيز، فإن السلطة الرقابية تكون قد اكتملت بإنشاء الهيئة الجديدة، وهو ما يجعلها أكثر قوة على الضرب بيد من حديد على كل مكامن الفساد وبؤره، وانعكست تلك الجهود على مكانة المملكة على المستوى الدولي، إذ تقدمت عدة مراكز في مؤشر مدركات الفساد. ففي 2010 المرتبة ال50 من بين 178 دولة، وحصلت على 40 نقطة من 100، وفي 2019 احتلت المرتبة ال58 من بين 180 دولة، وحصلت على 49 نقطة من 100. وبذلك، تؤكد المملكة أن مسيرة الإصلاح والمراقبة لن تتوقف، ومهمة ملاحقة المفسدين والفاسدين ستتواصل، حتى يتم اجتثاث هذا الداء، فمن يحول المصلحة العامة إلى منفعته أو إلى مصلحة أقاربه أو أعوانه، يكون قد تعدى على حقوق غيره وحرمهم إياها. وربْط جهود مكافحة الفساد بالمنظومة القانونية، يؤكد أنه لن يكون هناك أخذ للناس بالشبهات، وأن كل من توجه إليهم التهم ستتم معاملتهم كأبرياء، لهم كل الحقوق التي كفلها القانون وأقرتها النظم، فمن وُجد أنه بريء فهو كريم النفس مصون الحقوق، ومن ثبتت عليهم التهم سيقفون أمام منصة القضاء حتى تتم محاسبتهم والاقتصاص منهم، والتعامل في كلتا الحالتين بالقانون وحده وليس سواه.