لا أتذكر أن هناك قرارا أصدر ونفذ في الحال دون متابعة أو وجع دماغ، مثل قرار ربط الحزام الذي لم يستغرق تنفيذه أكثر من أسابيع قليلة، ثم رأينا بعدها كل سائق يتوشح الحزام داخل سيارته سعيدا بذلك ومبسوطا، حيث اتضح أن محدودي الدخل لم تعد تهمهم مسألة ربط هذا الحزام فهم متعودون على ربط الحزام الآخر الذي أجبرتهم عليه معيشة تزداد فيها يوما بعد آخر شراهة الأسعار، ولا شيء يجعلك تشعر بفداحة المشكلة سوى رؤيتك لسيارة صغيرة متواضعة وداخلها عدد من الأفراد رجالا ونساء أولادا وبناتٍ، يحشرون أنفسهم داخل المركبة في طريقهم إلى أعمالهم أو مدارسهم، وعلى ملامحهم أثر الحاجة وضيق اليد! ذات صباح رأيت في أحد شوارع مدينة جدة التي يصفونها ب«أم الرخاء والشدة» صاحب وانيت ذي غمارتين، والذي كان يحشر فيه القبيلة، بزرانه العشرة بالعدد، داخل الوانيت، خمسة منهم في الداخل والخمسة الآخرون في حوض السيارة، وكلهم متقيدون بنظام المرور وموثقون بربط الأحزمة، لدرجة أن والدهم تمكن من ربط الخمسة الذين داخل حوض سيارة الوانيت الخارجي بحبل يشبه حزام الأمان حتى لا يتعرض أحد منهم أثناء السير لمشكلة من نوع الوقوع من صندوق السيارة. وأعرف أن الرجل كان مجبرا على ذلك، ولو لم يكن كذلك لما أقدم على هذه الخطوة، ولكن قاتل الله الحاجة وقاتل الفقر الذي قال عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: «لو كان الفقر رجلا لقتلته». ثم ماذا يفعل رجل مثل هذا وهو بالتأكيد من محدودي الدخل أمام أسعار سلع غذائية ومعيشية تتزايد وتتراقص يوميا مثل بندول الساعة؟ وجهات الرقابة تتفرج ولا هم لها غير منع الصحفيين من دخول إداراتها لكي لا يكتشفوا موائد الإفطار الصباحية لبعض الموظفين، من فول وتميس وفلافل تفوح رائحتها من خارج مباني بعض الإدارات الحكومية. إن منظر سيارات «الوانيت» وفي داخل أحواضها أطفال يمنحني الإحساس دائما بأن البطون الخاوية يمكن أن تطيح بتلك الأجسام الناحلة من هبة ريح. *1995