إن الأديب حيثما كان مخلوق تافه، وإن طريقته في تفكيره وتناوله للأشياء حقيقة تقوده إلى الجنون الوشيك، فأين يقذف بنفسه هذا الذي ما يفتأ يكظّ رأسه ويملأ ذهنه بآلاف الألفاظ والعبارات الجوفاء حتى يكاد ينفجر مثل القنبلة الذرية، ولكنه لا يحطم إلاّ نفسه بدلاً هناك من يملأ فناءه بكرائم الأنعام والسيارات، وهناك من يملأ بيته بنفائس الطنافس، وهناك من يترع خزائنه بأعلاق الذهب والفضة، فأين يذهب هذا الأديب المحمق المرزوء؟. ألفاظ ينسجها الأديب من بطنه مثل العنكبوت ثم يمد رواقها على نفسه، فإذا هو محبوس فيها يحور ويدور، ولا يقدر على الانفكاك منها. فما أعظم فجيعتنا في أعمارنا حينما اعتصرناها في اصطياد هذه الألفاظ الأوابد. إن الإنسان الذي يملك سيفاً مذهباً مرصعاً بفرائد اللؤلؤ ولا يعرف للسيف إلاّ هذا الاسم فقط، لهو أسعد وأرشد بلا ريب من الأديب الذي يحفظ للسيف مائة اسم من أمثال: المهند والجراز والعضب والصمصام إلى آخر هذه التفاهات، وهو لا يملك قطعة من الفضة!. جالت هذه الخواطر في نفسي في يوم قائظ استمتعتُ فيه بنسمات لطاف عذاب، واستروحت فيه بنفحات عبقة منعشة من شعر الصديق الأستاذ حسن عبدالله القرشي في ديوانه المونق «البسمات الملونة»، ولستُ أدري ما علاقة هذه الخواطر بمثل هذا الشعر اللذيذ الجميل؟ لولا أن القارئ لا يفقد في هذه الخواطر بسمة قبيحة كالحة إزاء تلك «البسمات الملونة» التي تفتر عنها ثغور الحسان من عرائس شعره لتعطينا الشيء الكثير من إيناسه وبشره، مع الاحتشام اللائق والترفع المطبوع، والتسامي - حتى في غزله - عن السفاسف والأوضار، والأدب النفسي الصحيح الذي يرتفع بشعره صعداً إلى السحاب دون أن يتوغل في ارتفاعه وتحليقه على دعائم واهية من اللمز والتجريح والقعقعة والتعالم المزيف. ** البلاد السعودية - (الإثنين 11 محرم 1367ه) .