يطلق الكاتب ثامر عدنان شاكر، في كتابه "عابر حياة" الصادر عن دار مدارك دعوة للجميع ليعيشوا حياتهم بسعادتهم، مشدداً على أن القطار لم يفت بعد لأي أحد. يقول شاكر: "في كل مرة يُصادفني أحد العابرين على متن هذه الحياة.. تحمل ألسنتهم السؤال ذاته: أخشى أن يكون قد فاتني القطار!! هذا الهلع الذي ألمحه في العيون.. هلعٌ معتاد. ومن منّا لا يُعاني منه؟! لكن أصدقك القول.. لا شيء بوسعه أن يخلف موعده معك.. كل شيء يأتي في ميعاده تماماً.. نظن أحياناً كثيرة أننا تأخرنا.. حبٌّ أتى بعد فوات الأوان، نجاحٌ لاح في الأفق ثم غاب.. قطارٌ فارقنا وتركنا دون أن يودعنا.. مدنٌ لم نصل إليها.. شواطئٌ أضعنا بوصلتها، أحباءٌ فارقونا حتى قبل أن نخبرهم أننا نحبهم كثيراً.. وأنهم كانوا الدنيا وما فيها.. لكنه قدرنا الذي يمضي.. وعقارب ساعة تدق في رتابة.. ولا يملك وثاقها أحد. كل ما علينا فعله هو أن نستمر في المحاولة.. نستيقظ كل صباح على أمل وفِي يدينا معولنا.. ونمضي في طريقنا نعمل بلا ملل، ثم حين يأتي المساء نغفو على حلمٍ ونبتسم". ويكمل فيما يشبه النصيحة "افعل كل ما بوسعك.. ولا تحمل همّ مستقبلٍ يطيع حاضرك ويقبّل يديه كي يرضى.. لن تعيش يوماً على الهامش، فأنت من تملك الزمام.. هذا ليس استسلاماً بل إِيمَانٌ.. ليس خنوعاً بل ثقة.. ليس مثالية، بل واقعٌ.. إن أحسنت - يا صديقي - العيش، فمن المُحال أن يفوتك القطار". عرّاف هارفارد النبيل يطرح شاكر سؤالاً عميقاً على بساطته، فيقول "أتريد أن تعرف كم وكيف ستعيش، ومتى ستموت؟! لو منحوك اليوم فرصة أن تختار!.. تُرى، ما هو الشيء الذي ستستثمر فيه وقتك وجهدك كي تعيش حياة راضية دون أن تحمل عناء المستقبل ووهم تقلبات الأيام، دون أن تجتاحك لحظات ضعف عابرة فتلجأ إلى قارئة فنجان مشعوذة أو عرّاف شارع ثرثار أو صفحة أبراج مُسلية!! يقول "روبرت والدينجر"، أحد أشهر أطباء علم النفس، والذي كان أحد الباحثين المُشرفين على أطول مدة بحث في التاريخ العلمي، والذي قامت به جامعة هارفارد العريقة، وعنوانه "سر السعادة". إن ثمانين في المئة من الناس يظنون أن السعادة في جمع المال وخمسين في المئة من هؤلاء الثمانين يقولون، إن "الشهرة أثمن ما يمكن أن تصبو إليه النفس في مشوار العمر القصير، في حين يُجمع الأغلبية أن دافعهم الأكبر وراء انكبابهم فوق مكاتبهم والعمل ليل نهار، كان من أجل أحد هذين الهدفين لا أكثر". في الثلاثينيات الميلادية من القرن المنصرم وعلى مدار 75 عاماً، قام الفريق النشيط بدراسة حياة 724 شخصاً، منذ فترة الصبا إلى الشيخوخة، راقبوا تفاصيل حياتهم، ماذا يأكلون؟ ماذا يشربون؟ ماذا يعملون؟ أوضاعهم الصحية والنفسية. كان همّ الباحثين الأوحد هو سبر غور تلك المنطقة المجهولة التي لم تطأها قدم بشر: ما هو سِر سعادة الإنسان الحقيقي في هذه الحياة. رغم كل العوائق التي صادفت فريق العمل بسبب طول المدة الزمنية والتي كادت أن تُعرّض الدراسة للانهيار، إلا أن إصرار الباحثين المتعاقبين على حتمية استمرار هذه الأبحاث حتى تصل إلى نهايتها، قد أنجاها وأوصلها إلى بر الأمان. استطاع الفريق أن يتوصل إلى النتيجة المدوية.. سر السعادة لم يكن له علاقة مطلقاً بشهرة أو بمال، ولا بالعمل الجاد المُرهق، كما يظن أغلبنا. مؤشر السعادة الحقيقي الأكثر تأثيراً، يكمن في أمر واحد: علاقاتنا الإنسانية الجيدة المتزنة. إنها تلك الأمنية التي تمنحنا السعادة والرضا. يقول البروفيسور "روبرت والدينجر": "لقد تعلمنا ثلاثة أمور بليغة عن العلاقات الإنسانية: أولها أنّ أصحاب العلاقات الإيجابية مع عائلاتهم وأصدقائهم ومجتمعهم يعيشون في سعادة وصحة وإيجابية، بل ويعيشون أطول. وعلى العكس فإن من يعيشون في وحدة قاسية يُصابون بالأمراض، ولا يصلون لمنتصف العمر إلا وقد تدهورت حالتهم النفسية والجسدية حتى إن أدمغتهم لا تعمل بالشكل الطبيعي. أما الدرس الثاني فهو أن العبرة ليست بالعدد ولا في الوقت وإنما في جودة العلاقات التي تُحيط بنا. والدرس الثالث والأهم: أن هذه العلاقات الجيدة، لا تحمي فقط أجسادنا، بل وكذلك عقولنا. تُطيل عمر الذاكرة وتجعلها تبدو في أفضل حالتها في سن الشيخوخة، والعكس صحيح تماماً لهؤلاء الذين يعيشون في عُزلة مدمِّرة". ذنب سألني متردداً: تُرى أبوسعي أن أُزاول عملي وأن أكون كاتباً فذّاً.. ولاعب كُرة محترفاً في آن واحد.. قلتُ والابتسامة تملأ كل ما فيّ: من الممكن أن تكون نجماً يلمع في كل سماء يبلغ أفقها قلبك.. فقط كُن على استعداد تام على أن تدفع الثمن.. ثمن تميزك وتفردك!! في كل مرة أقابل من يتقن أكثر من عمل أقف أمامه منبهراً.. أخبره أن سِر عظمته وتميزه محاولاته وإصراره.. أربت على كتفه.. أن يستمر، أن يحافظ على طاقته، كلمة السر خلف كل نجاح.. أهمس في أذنه: تعلّم جيداً تنظيم الوقت، واطرد كل من يقف أمامك خارج دائرة حياتك! لكنها عبودية القوالب الاجتماعية الجاهزة، طامتنا الأزلية.. أن تعمل بنفس بالطريقة نفسها التي يعمل بها الآخرون، أن تمارس الطقوس نفسها وأن تذهب إلى الأماكن نفسها التي يرتادها المرتادون، أن تلبس الزي ذاته، وأن تسير بالخطوات نفسها، في الاتجاه ذاته.. وسط تحذيرات صارمة: إياك أن تخرج عن ركب السائرين.. إيّاك أن تعرف، إيّاك أن تُحاول، إيّاك أن تصنع من هوايتك عملاً.. إيّاك أن تُفكّر أن تجني رِبحاً من هنا أو هناك فذلك في قاموس البعض.. تشتت.. وتيه.. وضياع!! نعم.. بوسعك أن تكون طبيباً وروائياً ورجل أعمال مرموقا ولاعب تنس محترفا.. بوسعك أن تكون مهندساً فذاً ورساماً مبدعاً وسبّاحاً ماهراً.. بوسعك أن تكون عشرات الأشياء في آن واحد.. وما الذي يمنع؟! نحتاج اليوم إلى ألف شاب وشابة.. يعملون ليل نهار.. يمارسون حياتهم بمتعة ويكسرون حاجز الجمود والقصور التي عانى منها مجتمعنا الخامل لأجيال وأجيال فأصابه بالهشاشة والاتكالية المحبطة. يرتبك التقليديون من قدرتك الفذّة على استغلال الوقت.. ينظرون إليك بعين الريبة والشك، وحين يفشلون في فك الطلاسم يرمونك بأقذع التهم.. فاشل.. مُشتت، تائه!! تجاهل أسهمهم المصوبة نحو قلبك.. فحلمك أكبر، وخطواتك أوثق.. والعمر من الإجحاف أن يضيع بين أيد قاصرة لم ولن تؤمن بك يوماً.. لذا لا تضيع وقتك معهم.. امضِ في طريقك وعين الله تحرسك.. غداً ستصبح علامة فارقة ومثلاً يُحتذى وقصة نجاح مُدوّية.. إن مت احرقوا هاتفي آخِر الدراسات التي ظهرت على قناة "سي إن إن" الأميركية كانت صادمة، تقول: إنَّ الفيسبوك يُصيبك بالعين وإنَّ إنستجرام يجلب لك المآسي والكدر، وتويتر يُصيبك بالضغط والسكر، والسنابشات يُحيل خصوصيتك إلى طُرفة، أمّا الواتساب فلا داعي لدراسات "سي إن إن" لتُخبرنا عمّا يفعله بنا، تكفينا تلك الإشاعات التي تعصفُ بنا، نتداولها ونُصدقّها في كلِّ لحظة وقد سلمناها أنفسنا عن طِيب خاطر؛ لقد قُيِّدت مشاعرنا وغُيرّت أمزِجتنا ولم نكتفِ بذلك؛ بل نتسابق إلى نشرها ونحن لم نتكبّد حتى عناء البحث عن مصداقية المعلومة؛ ونتجاهَل أنَّها وباءٌ مرير، فنقتلُ أنفسَنا ونُسَاهِم بكلِّ فخر في قتل المجتمع بجهلنا. الواتساب والسنابشات وما شابَهَهُما؛ شاهدٌ حيٌّ على أغلب قضايا الطلاق في بلادنا؛ تكفيك زيارةٌ لإحدى محاكم الأسرة، أو جَلسةُ دردشة مع أحد القانونيين ليُخبرك عن كوارث الخيانات ونِسبتُها؛ لِتعلمَ حجمَ فداحةِ المأساةِ، التي يقولون إنَّ بطلَها الأوَّلَ أصبحَ "مواقعُ التواصلِ الاجتماعي" بلا مُنازع. عالمُنا الافتراضي وحياتنا الأخرى قاسية، قد تكونُ صادمةً جداً، من كان يُصدّق أنَّها ستُصبح حياتنا الأولى، وأنَّها ستغدو مُتنفسّاً لأحلامِنا وطيشِنا.. أصبحت حياتنا السرِّية تروقُ لنا كثيراً وتؤرِّقُنا أكثرَ؛ نكتشفُ بعدَ كلِّ هذه السنوات أنَّ حياتنا الافتراضية تختبِرُ مبادِئَنا كل يوم أكثرَ؛ تختبر الفضيلة الغائبة فينا، وتمتحِنُ صبرَنا وجلدَنا، وقُدرتنا الحقيقية على الحبِّ الصادق بلا مراوغةٍ؛ على الإخلاص بلا زيف، على الأمانة بلا مواربة. "أرجوكم إنْ مِتُّ أحرقوا هاتفي النقال" جُملة تُلخِّص قسوة حياتِنا الافتراضية، معاناتنا، خوفنا وتخبُّطَنا ما بين قِيَمنا التي ندَّعِيها، وأفعالنا التي تفضح هشاشة أخلاقياتنا، الوصية أقصر قصة في العالم، تتجسَّدُ فيها ملامحُنا جميعنا، وتجعلنا نتساءل في ذهول، حقاً من نكون؟! إنَّه الاختبار الأصدق، الذي لا مَناصَ منه. كُن صاحبَ مبدأٍ وسترى السَّعادة تسكنُ قلبَك، وستجد البركة تُرافق خطواتِك أينما كنت.. نَعمْ المبادئُ، كلمة السرِّ المفقودة من قاموس أيامِنا الطويلة، وحياتِنا الافتراضية الصَّاخِبة. بيدي.. سألُفّ حبل المشنقة يدور الصراع داخلنا، ما بين حُب المشاركة والظهور وما بين خصوصيتنا التي أصبحت مهترئة ممزقة.. فاستباحت مشاعرنا وكشفت أسرارنا في استهزاء وبلا مبالة مزعجة!! كم منّا اليوم بات لا يشعر بالمتعة وكأن حياتهُ سُرقت مِن بين يديه خلسة؟! كم واحدٍ منّا بدأ يتسلل الملل إلى نفسه وقد غلبه الضجر وهو يُفتش عن أجمل اللحظات التي كان يقضيها مع أقرب الناس إليه، لكن بلا جدوى، فقد غابت بعد أن تهنا عنهم وتاهوا عنّا؟!! أين لذة لحظاتنا الحميمية مع أبنائنا، مع أحباء القلب.. كيف أصبحت الأحضان باردة، والعيون جامدة، والأصوات متشابهة. لقد مضت عشر سنوات على هذا العالم الجديد، وحان الأوان لنضع حدّاً لهذا الجنون الذي يسلبنا أغلى ما نملك.. إنسانيتنا. هناك فرقٌ جلي ما بين التواصل وبين الاقتحام.. من المحال أن نُشارك الجميع كل لحظات حياتنا. الأسوار يجب أن تبقى.. الحدود لا بُد أن تظل محمية حتى لا يستبيحنا أحد. يجب أن نُفرّق ما بين المشاركة وما بين خصوصيتنا التي ذبحناها بدم بارد.. أن نتعلم متى نظهر ومتى نختفي.. متى نُشرّع النوافذ ومتى نُغلق الأبواب ونوصدها بألف مفتاح وقفل. في لحظات قوتنا ليس من الضرورة أن نتباهى ونُخبر العالم عن مكاسبنا وانتصاراتنا. خُصوصيتنا سدٌّ منيع.. ومن المُحال أن نكون على المسرح طيلة الوقت.. تُراقبنا العيون، وتعد أنفاسنا وتحصر لفتاتنا وتتبع خطواتنا.. ذلك انتحار بطيء يقتل كل ما فينا، ويُحيلنا إلى بقايا بشر. عابر حياة.. لقد كان المشهد مخيفاً.. فجأة وفي وسط السوق، وفي إحدى أكثر مدن العالم تحضراً ورقياً.. وقف مُلوحاً بالسكين في يده، وسط الجموع التي التفتت لصراخه الحاد لن أؤذي أحداً.. كل ما أريده هو أن أنهي حياتي في هدوء.. إنها حياتي أنا ولا وصي عليّ، وليس لكم الحق في أن تتدخلوا بيني وبين نفسي.. أجابه أحدهم ساخراً: وما الذي يمنعك؟! صرخ: لا أحد!! ليسقط لحظتها على الأرض باكياً كالأطفال.. وسط ذهول الحضور وصمتٍ أطبق على المكان فجأة وكأنه يُشارك الجميع دهشتهم!! مشهد واقعي مؤثر، يُلخص حياتنا.. مشاكلنا التي نعيشها. حسب الأرقام المعلنة أخيراً في وسائل الإعلام العالمية، فإن نسبة الانتحار بين الشباب في ازدياد، ودون الإبحار في الأسباب التي مازال الباحثون يتداولونها فيما بينهم، تبقى سمة الحياة العصرية التي نعيشها اليوم أحد الأسباب. وسط الصخب الكاذب، يحن الإنسان لمن يُشاركه آلامه وهمومه، وحين يكتشف حقيقة عزلته المّرة، تخنقه آلامه ويُقرر أن يُنهي تلك المأساة بيديه. لذا، عندما يُخبرك أحدهم عن معاناته، فهو يُحاول أن يقول لك ولو همساً.. أرجوك لا تكن مثلهم.. كُن معي.. ارفق بي.. ولا تخذلني كما خذلتني الأيام. جاهلٌ أبكمٌ أعمى ذلك الذي لا يشعر بمعاناة الآخرين!!. بلادة الحِس داءٌ قاتل.. ينخر في قلب علاقاتنا ويدميها.. فيقتل فينا أجمل المعاني. أيها الكارهون كفاكمُ عويلاً يُمسك بهاتفه ويقرأ أخباراً قد تكون عادية، لكن بقدرته الفذّة في تحويل كل ما هو عادي إلى مأساة، ما يلبث أن يُشاطرك بؤسه، يرسم سحابة سوداء ثم يُمطر عليكَ من تشاؤمهِ قطرات ومن تعاسته عواصف وأعاصير ويسخر كل ما حوله أفواجاً أفواجاً.. ثم ينفخ وجنتيه ويُشمّر عن ساعديه وتتأهب أصابعه لبث أوهامه بكل ما أوتي من قوة في كل منصة وزاوية.. تجده يجوب الشوارع رافعاً شعار: لا أمل!! السؤال الذي حيرني سنوات ولم أجد له جواباً: ما هو الطائل يا ترى من كل هذا؟! ما هو النصر المبين الذي يبحث عنه مثل هؤلاء وماذا سيستفيدون حين يعم الإحباط المكان؟ وإن حاولت، مجرد المحاولة، نقاشه، فسوف يتحوّل في ثانية إلى ماردٍ غاضب لا يرحم، يُطلق لهيبه في وجه كل من يُعارضه بلا هوادة!! ولا منجى ولا مفر حينها.. سوى أن تهرب.. كي تنجو بنفسك من هذا الهلاك المدمر!! للأسف، بعض الناس لا يريدون لك أن تتفاءل، أن تحلم، أن تقول كلمة حق، أن تغازل الغد، أن تُقبل وجنتي القادم وتُطبطب على المستقبل علّه يحنو ويرضى فيطيع أمانينا.. يرونها جريمة، خيانة تستوجب الرجم، يسخرون منك، ينعتونك بأقبح الألفاظ. يعيشون على القُبح ويُفتشون عنه في كل زاوية وخانة!! لمثل هؤلاء.. ابتسم واهمس في أذنهم.. أن ارحلوا بعيداً، ولا تقتربوا، فالحياة بدونكم أجمل. ثرثرة فوق ضفاف تويتر يشكو إليّ أحد الأصدقاء من تدنّي أداء الموظفين، وأنها باتت ملاحظة مكررة مع كل قضية تشغل الرأي العام، ورغم أن صديقي هذا لا يُمثل مركز إحصائيات متكامل ولا يملك أرقاماً تثبت مدى إنتاجية الشعب عن بكرة أبيه حين تمر بلادنا بأي قضية شائكة، إلا أن أنينه استوقفني وأصابني بحيرة! شكوى الصديق العزيز، تلتها شكاوٍ متعددة من زملاء آخرين، وكأنها أصبحت روتيناً يتكرر مع كل واقعة، إلى أن وصل الحال أن قامت إحدى الشركات باستحداث منصب إداري وأطلقت عليه مراقب مواقع التواصل الاجتماعي، ليكون دوره، باختصار شديد، مراقبة مشاركة الموظفين في العالم الافتراضي أثناء أوقات الدوام الرسمية ومعرفة المحتوى واللغة التي يستخدمونها!! إلى هذا الحد وصل الحال، والقادم ينبئ بما هو أعظم. لكن ما يُثير الدهشة حقاً، أن أغلب تلك الأصابع الثائرة، والعيون المترقبة، تظن في قرارة نفسها أنها تقوم بدور بطولي مُقدَّس وأنها تقف على الحدود وقد شهرت أسلحتها لتحمي حِمى الوطن!! تقضي نهارها تُجادل وليلها تُثرثر، ثم تمضي إلى عملها مترنحة، أجسادها خاملة، وأصابعها الفضولية لا تُفارق مواقع التواصل الاجتماعي كافة لمتابعة المعارك من هناك، وقد رفعت شعارات واهية وحجتها أنها تُدافع عن الوطن، في حين أن الإنتاجية في انخفاضٍ مستمر! كيف أصبح الجميع كُتّاباً نوابغ، ومحللين سياسيين بررة واقتصاديين محنكين يقضون جُلَّ أوقاتهم في معارك طاحنة وهم لا يكادون يفقهون شيئاً؟! كيف تبدلت المعايير واستنزفت الطاقات في قضايانا وإن كانت مصيرية، وتحولت إلى فصول مضحكة في تفاصيلها وسطحية طرحها وهشاشة معناها! كيف أصبحنا جميعاً ثواراً من ورق، وجنوداً من ظل، وتناسينا أن حماية الوطن ليس سراباً كاذباً بل حقيقة وواقعاً، وأن لكل منّا جبهته التي يجب أن يقف عليها ويحميها حتى ينتصر الوطن. لكنها شهوة الكلام، ورغبة الظهور، وحماس مجنون، وانجرافٌ خلف الركب والتي يكاد يكون كبح جماحها من المحال في زمن أصبح الجميع فيه يملك ميكروفوناً ومنصة ومستمعون يشاهدون ويشاركون الثرثرة، لذا ضعف التركيز وتشتت الأذهان وشكت الأعمال من تدني الأداء. ليس هذا هو شكل الوطن الذي نتغنى به وندافع عنه.. ليست هذه الوطنية التي نُحارب من أجلها؟ الوطن يا صديقي يُريد مني ومنك ما هو أنفع وأجدى من ثرثرة بلا طائل، والانتصار في ساحات عابرة. الوطن يا صديقي يحتاج أن يحمل كل منّا سلاحه الذي يملكه ويذهب إلى ثكنته في أرض المعركة كي ينصف هذا الوطن الذي يستحق كثيراً، من الظلم أن نقف جميعاً في زاوية واحدة ونترك باقي الخانات فارغة، ونحمل جميعاً السلاح نفسه الذي لا نتقن استخدامه، ثم نتباهى أننا نحفظ أمن الوطن وكرامته. الأوطان أيها السادة.. تنتصر فقط بوعي أبنائها، وحكمة مفكريها وعلمائها، وقوة شبابها، لذا فسلاحك ليس كلاماً وجدالاً بل عملاً وإنتاجاً وإتقاناً وأداءً يزداد نضوجاً مع الأيام. ذلك هو الحب الحقيقي، فلا تجعل الضوضاء الكاذبة تغتال أجمل ما فيك، فتتوه ويتوه من بين يديك الوطن. ثقافة اللطش فاجأني صديقي الأكاديمي المخضرم بوضع مقتطفات من عبارات ومقولات في صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي دون ذكر المصدر، أو الإشارة إلى أنها منقولة، أو حتى وضعها بين علامات تنصيص ليكون القارئ على علم أنها ليست من تأليفه الشخصي. لم تكن المرة الأولى.. غضبتُ وثُرت كالمجنون.. هاتفته حانقاً: حتى أنت يا دكتور يا محترم؟! ماذا تركت للعامة الذين يقتاتون على نِتاج الغير.. يسرقون، ويتباهون ثم يصدقون أنفسهم!! أجابني، وليته ما نطق: ذلك للفائدة العامة، ولا بأس في ذلك!! تبرير كارثي، والطامة الكبرى أنها واقعة نُفِّذت بيد أكاديمي يعرف أن كتابة جُملة واحدة دون الإشارة إلى صاحبها جريمة، وأن ذلك يندرج تحت الأمانة العلمية والحقوق الفكرية التي من المحال أن تُمس تحت أي ذريعة أو عذر!! وحجم الكارثة يكون أكبر حين تأتي تلك الأفعال من أهل العلم والمعرفة والثقافة، الذين يُعلمون الناس مبادئ وأخلاقيات العمل. إن حقوق الملكية الفكرية حقٌّ مقدس يجب أن يُصان. من يسرق كلمة ويتباهى بجريمته، من الممكن جدّاً أن يسرق غداً أي شيء وكل شيء، من الممكن أن يسرق وطناً بأسره ويبيع الوهم في العلن ويكسب من ورائه ويتغنى بحسن نواياه دون أن يرف له جفن!! كُن أميناً وارفض هذه الظاهرة بلا تبرير أو تفسير.. كن يداً تجلد بلا رحمة. إنهم لصوص العصر الجُدد، فحاربوهم أينما وجدتموهم.