في ليلة مباركة أنزل الله تعالى أولى آيات القرآن الكريم، وهي الآيات الأولى من سورة العَلَق على سيّدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، بغار حراء، قال تعالى: ﴿اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَق﴾، أمر عظيم، من رب العالمين، في كتاب كريم، إنه الأمر بالقراءة، مفتاح العِلم الأول، وسراجها المنير على الدوام، وسببها الأقوى، مَن امتلك هذا المفتاح فُتحت له أبواب المعرفة، ومن أشعل سراج القراءة أضيئت له دروب الوعي، ولا يستطيع أحد من البشر أن يسلب منه المفتاح، ولا قُدرة له على إطفاء السراج، ولا وصول له إلى تعطيل السبب. شأن الكتابة عظيم، وأمانة الكلمة جسيمة، وكم كلمة رفعت صاحبها عند الله تعالى ثم عند خلقه، وأخرى هوت بصاحبها إلى قاع سحيق، ويكفينا دليلا على علوّ شأن الكتابة أن الله تعالى أقسم في كتابه الكريم بالقلم، قال سبحانه: ﴿ن والقَلَمِ وما يَسْطُرون﴾، وكل من يحمل قلما أو هاتفا في جيبه مسؤول عما يكتب ويرسل إلى الناس، تشمل هذه المسؤولية ما يكتبه شخصيا، بأن يتحرى الصدق والأدب في كل كلمة، ويتوخى الحذر من نقل الكذب والإساءة فيما يصله من رسائل، وعدم استسهال عملية النسخ واللصق والمشاركة السريعة، مع العلم أن كلمة (منقول) أو (كما وصلني) لا تعفي الناقل من الحرص على الصدق فيما ينقل وينشر. إذا أردت أن تُسعد إنسانا فحبّب إليه القراءة، مقولة لها من الصدق نصيب كبير، وما من شخص يتمتع بالوعي والسعادة وحُسن الخُلق، إلا كان مردّ الفضل لما هو فيه إلى مَن أخذ بيده ذات يوم إلى بساتين القراءة والمعرفة، سواء كان الأب أو الأم أو المعلم أو الصديق، ثم تركه في البستان، يقطف ثمرات ما زرعه السابقون من علوم ومعارف وفكر وفنون، فامتلأت سلة الحصاد بما لذّ وطاب من علوم وآداب وثقافات، إن قرأ القرآن الكريم توثقت علاقته بالله تعالى، وإن قرأ في السنّة النبوية ازداد حُبا لنبيه، صلى الله عليه وسلم، وإن قرأ الشعر والأدب استقام لسانه، ورقّت أخلاقه، وزاد ارتباطه وانتماؤه لعروبته، وإن قرأ في العلوم العلمية نما عقله، وأدرك عظمة هذا الكون وقوة خالقه، عز وجل. تروي القراءة عطشَ القارئ إلى المعرفة، وتجيب عن كثير من الأسئلة الكامنة في عقله، وتزيد حصيلته من الثقافة، تماما كما تفعل الينابيع العذبة للوارد عليها، وكلما طاب الماء عذوبة وبرودة، انتاب الناهل منه إحساس بالشوق إليه والاستزادة من معينه، وفي القراءة بُعد إنساني مهم، وهي تلك المواساة التي يجدها القارئ في سطور مكتوبة بإحساس صادق وعناية أدبية، وكم من كُتب وكلمات كتبها أصحابها ونسوها، وما زال القراء يعثرون فيها على المواساة والدعم، ولعل سطورا كانت خير أنيس لقارئها في ليلة مظلمة بقرية نائية، ولا شك أن القراء تعاطفوا يوما ما مع بطل رواية فقير عاثر الحظ، وحين تمت ترجمة هذا العمل الأدبي إلى عدة لغات، أصبح أدبا بصفة عالمية، ينتمي إليه وإلى كاتبه قراء ومثقفون من جميع الأعراق. تمدّ الكتابة جسورا من المحبة والعلاقة الإنسانية الراقية بين الكاتب والقارئ، يستوي في ذلك الأحياء والأموات من الكُتاب والأدباء، ولربما ارتبط قارئ أو قارئة ارتباطا معرفيا بكاتب يعيش في بقعة بعيدة من الدنيا، أو كاتب توفي منذ سنين عدة، وهنا يتمثل السر اللذيذ في القراءة والمعرفة، فهي لا ترتبط بالجغرافيا، ولا تعترف بالتاريخ، بل إنها عابرة للمكان والزمان، وبين القراء من يعرف سيرة حياة كاتب وإنتاجه الفكري والعلمي، وكأنه أحد جيرانه أو أقاربه، كل هذا جاء بتقليب صفحات مؤلفاته، ومتابعة إبداعه أولا بأول، وهذه العلاقة الدافئة مع القراء كنز ثمين، يحقق للكاتب الرضا عن نفسه، ويدفعه إلى مزيد وجميل من العطاء. أحببتُ القراءة وتعلقتُ بها طفلا صغيرا، وأنا أتخذ مكاني في الصف الأول الابتدائي، وأتنقل ببصري في اللوحات المعلقة على حيطان الصف وبقية حيطان المدرسة، أدهشتني أشكال الحروف العربية وأنا لم أتعلّمها بعد، أطلقتُ الخيال مع البصر متأملاً هذه الانحناءات الفاتنة للحروف، والتجويفات الساحرة الفارغة لبعض الحروف أو الممتلئة لبعضها، نظرتُ إلى حرف جميل، يضع على رأسه قبعة أنيقة، تميزه عن بقية الحروف، عرفت في الأسابيع التالية أن اسمه حرف الألف، خشيتُ أن أضع إصبعي على طرف حرف يشبه أسنان المنشار في حدتها، ظننتُ حينها أن أصابعي ستتعرض للجرح، ثم عرفتُ لاحقا أنه حرف السين، اندهشتُ من حرف يظهر أنيقا في أربعة أشكال، وعرفتُ فيما بعد أنه حرف الهاء. اتصلت علاقتي بالكتب منذ المرحلة الابتدائية، كان موعد زيارة مكتبة المدرسة عيداً يغمر حواسي بسعادة لا حدود لها، اتخذ معلمو وأساتذة اللغة العربية في جميع مراحل التعليم العام والجامعي مكانة أثيرة في العقل والقلب، كنتُ أراهم بشرا من نوع مختلف ومميز، إذا بدأ أحدهم يحكي حكاية باللغة العربية، أو يلقي قصيدة فصيحة، ينعدم إحساسي بالزمان والمكان في الواقع، ويسافر المخيال بعيدا إلى زمن الحكاية أو القصيدة، وأبدأ لا إراديا في رسم الشخصيات التي لها دور فيما يقرؤه الأستاذ، وكأنني أرى وأسمع على الحقيقة تلك الشخصيات، لا أنسى الحكايات والقصص التي كانت تملأ كتب القراءة في المرحلة الابتدائية، وما تحفل به مكتبات المراحل التعليمية من كتب ذات محتوى معرفي ثري، ولا أنسى أبداً صوت الأستاذ في الجامعة حين قرأ قصيدة الشاعر مالك بن الريب في رثاء نفسه، حيث عم القاعة صمت المقابر، بالرغم من احتشادها بالطلاب. يا رفيق الحرف، لو انطلقتُ في كتابة حكاياتي مع القراءة والكتابة فلن تكفيني الصفحات الكثيرة، أنا -على سبيل المثال- لا أطاوع نفسي كثيرا في اقتناء الكتب، لأن النتيجة ستكون امتلاء المنزل عن آخره بالكتب، ولهذا أزور معارض الكتاب زيارات عابرة، وأذهب إلى المكتبات على فترات متباعدة، بالرغم من محبتي التواجد في أي مكان سكانه من الكتب، ومن حين لآخر أضيف إلى رفوف المكتبة الخاصة بي كتابا أو أكثر، أما الكتابة فقد منحتني شعورا بالسعادة، ذلك أنها طريقة أنيقة للتعبير عن الذات، يعرف هذا من اختاروا الأفكار والحروف والكلمات أصدقاء لهم، ما إن تشغل بالهم فكرة، حتى تنساب الكلمات بين أصابعهم تعبيرا عن تلك الفكرة وتدوينا لها شعرا أو نثرا، ويجدون في الكتابة سعادة عقلية وراحة نفسية، حالهم في ذلك حال من يهوى النحت أو التصوير أو الرسم وغيرها، وكأن هذه الهوايات استشفاء وبلاسم، تُخفف عن الإنسان من تعب الركض اليومي في دروب الحياة.