يشدّ الانتباه في بعض حلقات النقاش السعي لإدانة طرف الحوار مع سبق الرصد والإصرار! بتوظيف مجزوء النصوص، واستخدام إرث الضيف ضدّه بمفهوم المستضيف، كوسيلة للإثارة وجذب المشاهد والمستمع. وما يثير السخرية حقًّا أن ينتهي بعض نقاشنا بخلاف نتج عن مجرد اختلاف! وجدل خرج من رحم (نحن مقابل أنتم). ويقودنا تفاؤلنا في بعض برامج الحوار لرفع سقف التوقعات بأن تكون حافلةً بثراء الفكرة، وإعلاء مبادئ الحوار، ورسم مسار بنّاء للحقيقة، وليس الإدانة التي يبيتها أحدهم للآخر، لكن الأخيرة هي الحاضرة، لتعلو لغة الاتهام والتجريم في الكثير من البرامج التي تتلمذت على مخرجات تصنيفات الفكر وتحزيب المجتمع، فكم حصد بعضنا الندامة إثر نقاش هامشي في لقاء أو مناسبة بسيطة؟ حينما تجرد الحوار من أبسط مبادئ التفاهم حول جوهر الموضوع، وتنحى إلى زاوية الاستعراض وجلد وجه الحقيقة لتحقيق نصر شخصي، وإثبات براعة في إلحاق الهزيمة بالآخر. في إحدى النقاشات البسيطة يقود الحديث بعضه بعضا بدءاً بجملة قائل: تنطلق رؤية المملكة واضعة صلب اهتمامها الاعتماد على سواعد الوطن وإبداعات شبابه، فتأتي مداخلة مكملة للمسار نفسه بقول آخر: يحتاج الشباب للتمهين والتمكين والتدريب لخوض المهن الصناعية والتقنية بامتلاك المهارات الكافية. إلا أنها كانت - رغم مدلولها الواضح - اتهاما لبراءة الفكرة، تجد ذاتها في مواجهة سؤال: هل وطننا غير قادر على تحمل مسؤولياته تجاه أبنائه؟ وهل غابت هذه الفكرة في خطط الرؤية؟ ليحاول «المتهم البريء» إثبات براءته في ظل أسئلة كثيرة تهرول متسرعة نحو تنحيته عن موقعه في خارطة المواطنة، وإقامة الحجة عليه بالارتماء في أحضان المناوئين للتقدم والتحضر والمنافسة وإعاقة انطلاقة الرؤية بفكر خانع دسيس!! عندها تخيل حجم التشوية النفسي الناتج عن هذه الهزة العميقة في الشعور المقابل، وحجم الدمار الشامل لمفاهيم الحوار، نتيجة التقويل والفرية وتغليب أكذوبة الظن! ولا يحصره العدد ذلك «البهتان» المتحيّن للفرص، للإجهاز على فكرة أخرى قد لا تكون هي وحدها الضحية، بل يكون شخصا أو أسرة أو مجتمعا، دون انتباه لمردوده أو حساب نتائجه، لأنه نابع من خلفية الإقصاء والفئوية المتعمقة في نفوس البعض. وسوء الظن البغيض الذي نهانا عنه الحق جل جلاله (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم). فكم نرى ونسمع في بعض منابر الحوار من يثبت التديّن لنفسه أو فئته باتهام الآخرين بالفسق والفساد والانحلال؟ دون مراعاة لقول الله تعالى (إنّ ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى)، وكم نلحظ من التجرؤ على الآخرين بإسقاط مواطنتهم، واتهامهم بالخيانة - من باب التجني والتظالم - كوسيلة لإثبات حب الوطن، دون آبهين بأن الوطن مركب واحد يحمل الكل ويسع الأطياف المتنوعة على اختلافاتها، يلزم الحفاظ عليه من الكل دون استثناء، بروح الكل ومفهوم الجمع. إنّ حوارنا روح وجودنا، وأهم معطيات التقارب فيما بيننا، وتعزيز التلاحم في وطنيتنا، وتنمية قدراتنا على توليد أفكار جديدة متنوعة، وهو الذي يؤدي بنا إلى تخليص بعضنا من الأفكار الخاطئة والسلبية. وقد نال هذا المجال كثيرٌ من الاهتمام والإثراء بالبحث والتأليف، وتعددت الكتب المتخصصة في آداب الحوار ومبادئه المهمة ومنها: (حسن النية، وقصد الحقيقة، والتحدّث بعلم استناداً للدليل، وتجنّب الأمور التي لا يُعرف فيها الحقّ، وعدم الاعتداء على الآخرين بسيئ الكلام أو الثقيل على النفس، والالتزام بالعدل، وتجنّب ظلم الشخص الذي يجري الحوار معه سواء بنقل الأقوال السيئة، أو اعتساف النصوص، والتحلي بالحلم والنزاهة، وتجنّب الحديث الذي يسبّب الذلّ والمهانة، وعلى أطراف الحوار حسن الاستماع، وعدم مقاطعة فكرة الشخص المتحدّث........ الخ). وغير ذلك من القواعد المعرفية والإطار النظري الواسع الذي يحسن أن يكون في واقع التعامل على كافة الأصعدة الحياتية، أكثر من وجوده في حيز النظرية ليكون تربية وسلوكا. على مستوى مناهجنا الدراسية توجد بعض إشارات الحوار الهادفة لتعزيز مبادئه، ولكنها لا تعدو مجرد إشارات ضئيلة تمر كالكرام، تنقصها الممارسة والتطبيق الواسع، لأنّ من يمتلك مهارة الحوار يمتلك مفاتيح المعرفة، وقد كانت الحوارات الطلابية إحدى المكونات الجيدة للنشاط المدرسي رغم أنها تقتصر على النخبة، من أجل مسابقات أو منافسة سرعان ما تنتهي بمناسبة محددة خلال العام الدراسي، ورغم فاعليتها إلا أنها غابت عن ساحة المناشط المدرسية، لتلحق بركب مقرر التعبير والإنشاء الذي كان يناط به تنمية هذه المهارة وتعزيز مبادئها. حينما تعلو في أي مجتمع قيم الحوار الهادف، ترتفع قيمته، وتتطور مكوناته الفكرية، وتنمو علاقاته الاجتماعية، وتضمحل أسباب الفرقة، وتغيب سلوكيات مقاومة الحق، وترتفع قيم الاحترام والثقة وتبادل الرأي والعمل المشترك.