أتذكر أن أحد الأصدقاء سألني سؤالا مباشرا عندما بدأت التدوين في مدونتي الإلكترونية بصورة منتظمة، وكان سؤاله: لماذا تكتب وتدون وما المردود من ذلك؟، وهل هناك أي مردود مادي من الكتابة والتدوين؟! وأتذكر أيضا أن إجابتي: إن الكتابة هواية وميول مثل غيرها من الهوايات، والتدوين الإلكتروني والنشاط الرقمي أصبح يسمى إعلاما بديلا، لأهميته البالغة أو شيئا من هذا القبيل. ولكنني الآن أدرك إن إجابتي كانت قاصرة، كما أدرك اليوم بصورة أوضح لماذا كنت أحب أن أكتب وأدون دون مقابل مادي أو اجتماعي، لأن التدوين كان وسيلتي الأمثل للتخلص من عبء بعض ما يدور في ذهني من أفكار واهتمامات ومواقف. والتدوين كان هو الوسيلة المثلى أيضا للشعور بشعور أفضل وسط ضغوطات الحياة اليومية وتناقضاتها، والتغلب على الشعور بالغربة ومشاعر الاغتراب، إن صح التعبير، وربما كان هذا هو السبب الذي دفعني إلى التعريف بمدونتي الشخصية قبل عدة سنوات بأنها مدونة يتماهى فيها مكان الإقامة الحالية مع الوطن. لقد غادرت بلاد الغربة بعد أن تعلّمت منها دروسا كثيرة في الحياة، وفهم واحترام الآخر، واحترام الثقافات والاختلافات، فضلا عن أخلاقيات وقيم العمل الآسيوية خصوصا. وعدت إلى أرض الوطن الحبيب بعد غياب دام حوالي 5 سنوات في بلد المهجر في الشرق البعيد، وقد أدركت في هذه السنين أنه لا يعرف الوطن من لم يعرف الغربة، وعاش بين مطرقة ألم الغربة وسندان غربة الوطن. وألم الفراق عن الوطن من أصعب الآلام وأشدّها، فمن لا يبكي لفراق الوطن؟ فالغربة لا تعني البعد عن الوطن فقط ومغادرة حدوده الجغرافية، بل هي غربة الروح والإحساس المرير لوطنك وأهلك وأصدقائك وذكرياتك التي تركتها خلفك. الغربة هي غربة الروح عندما تحس أنك وحيد بين من حولك، فتتحدث إليهم فلا يسمعون صوتك، وتحتاج إليهم فلا تجدهم، وهي معاناة فوضى المشاعر وبعثرة الأحاسيس. والعودة إلى الوطن -بلا أدنى شك- تمنح الإنسان شعورا رائعا واستثنائيا، مهما سافر ودار في دول حول العالم. وبغض النظر عن مستوى جودة الحياة في بلاد الغربة والمهجر، تغمر السعادة وجه العائد، ويملأ الأمل قلبه ويتملكه شعور بالنشاط، والرغبة بحماس في تحقيق الأماني والأحلام والتطلعات، بعد قضاء سنوات طويلة في بلاد الغربة، حيث الإحساس بالذات ووجود المناخ المناسب للنجاح والتميز. ولكن أصعب أنواع الغربة وأكثرها وجعا ومرارة وأشدها قسوة، هو أن تعيش داخل حدود وطنك، وتشعر بأنك غريب. فالغربة داخل الوطن هو الشعور بعدم انتمائك إلى المكان الذي شهد مولدك ومراحل طفولتك، وإلى الأرض التي عاش فيها آباؤك وأجدادك. والشعور بالغربة في الأوطان يدعو إلى التوقف والبحث والتقصي للوصول إلى جذوره وأبعاده. فكثير من المهاجرين في معظم الدول العربية عندما يعودون إلى أوطانهم، غالبا ما يشعرون بما يمكن أن نسميه غربة الوطن، على الرغم من وجودهم بين أهلهم وأحبائهم. أعتقد أن مثل هذا الشعور يرجع إلى أسباب كثيرة لا يسع المجال لذكرها، لكن واحدا من أهم وأوضح الأسباب، ربما هو خيبة الأمل الكبيرة وانهيار كل التطلعات، عندما يصطدم العائد إلى وطنه بحال أبناء وطنه، وسطحية تفكيرهم، وضيق آفاق التفكير في البيت والمدرسة والجامعة والشارع، ومستوى التعصب والتعامل مع الآخر المختلف. ولقد ظننت في يوم من الأيام أن الكتابة ستفقد رونقها وبريقها والميل إلى الكاتبة سيخفت عندما أعود إلى الوطن بعد طول غياب، لكنني كنت مخطئا واكتشفت وجود حاجة أقوى للكاتبة والتعبير عن الذات، وأن أشعر بالغربة في الأوطان، وأنا أواجه شعورا من نوع خاص بالاغتراب بين ناطقي العربية، وتظل الكتابة وسيلتي المثلى للخروج من قفص مشاعر الغربة، حيثما حللت ورحلت حتى ولو بقيت أوراقي حبيسة الأدراج.