لتذبْ المناطقية المعيقة في شرط المنافسة على القبول في الجامعة أو الوظيفة العامة، وتخلق الكفاءة فرصة من يمتلكها في قريته النائمة في حضن الريف النابض بالهدوء والجمال، يسكن عبدالكريم مع أسرته في مسكن متواضع، لا يكاد يلتقي أقرانه إلا في مدرسة القرية خلال أيام الأسبوع، وأقرباءه بمسجدها الجامع. أنهى المرحلة الابتدائية بتفوق وانتقل لدراسة المرحلة المتوسطة والثانوية العامة في قرية مجاورة، وتدرّب في برامج مبسّطة على اختبارات القدرات في مدرسته، وبما أنه لا يملك حاسوبا ولا هاتفا ذكيا، كان يتلقى الأخبار عن طريق زملائه بالمدرسة، ويسمع منهم مواعيد إجراء اختبارات التحصيل وطرق التسجيل، ويتواصل مع أحد أقاربه في إحدى المدن الكبرى عن طريق هاتف والده لإلحاقه بأي برنامج يتطلب أنظمة إلكترونية، أو دفع بعض الرسوم اللازمة، فحصل على الشهادة الثانوية بتقدير امتياز، وحاز درجات مرتفعة في اختبار الكفايات التحصيلية وقياس قدرات طلاب التعليم العام، كان يحبّ التدرب على المهارات التطبيقية في مختبر العلوم، خصوصا الفيزياء، ويتمتع بعلاقة مميزة مع معلم التخصص الذي يرشده دائما للممارسة والتجريب، ويهمس في أذنه بعبارات التشجيع والثناء نظير تميزه ونبوغه، ويوصيه بالالتحاق بقسم علمي متميز في إحدى الجامعات، وقد أثرت تلك العبارات المحفّزة مهاراته، كما أثّرت في نفسه، واستشعر أهمية اغتنام الفرصة لتطوير قدراته من خلال الالتحاق بقسم علمي يضمن له المستقبل، ويحقق أمنيات أسرته البسيطة، بتوفير دخل مناسب يساعد فيه والده الذي يعتمد على معاشه التقاعدي البسيط، وعوائد دخل إضافية يوفرها من محصوله الزراعي، وبعض ماشيته التي يمتلكها منذ زمن. وعندما نما إلى علمه فتح قنوات التسجيل في بعض الجامعات، قرر التسجيل والبحث عن التخصص المرغوب في الجامعة الواقعة في منطقته الإدارية على بعد (300) كيلو متر عن قريته، فلم يجد سوى تخصصات نظرية لا تتناسب مع ميوله ومؤهله الثانوي، فدخل في صراع مع النفس، هل يقتنع بإحدى الكليّات ويلتحق بمقاعدها في أي تخصص؟ فإذا به يتذكر توصية معلم الفيزياء العالقة في ذهنه! ولا يمكنه البحث عن مقعد يتناسب مع قدراته إلا بخيار الهجرة إلى مدينة أخرى، عرض عليه قريبه الذي يسكن في إحدى المدن الكبرى أن ينتقل إليه للسكن والدراسة في أي جامعة فالخيارات وافرة. وكان العرض مناسبا لكن السفر وزيارة الوالدين ستكون شاقة ومتباعدة الزمان والمكان، وفي خضم التفكير وبحث البدائل وجد بين خياراته فكرة ترى أن يلتحق بجامعة متميزة في المنطقة الإدارية المجاورة البعيدة القريبة، واتخذ قرار التسجيل في قسم الفيزياء، وفي الخيارات الإلكترونية طلب منه اسم المدرسة التي تخرج فيها ضمن قائمة خيارات محددة، فلم يجد مدرسته مضمنة، فلعل خطأ سقطت به سهوا، وعليه مراجعة القبول والتسجيل، وبالاطلاع على وثيقة التخرج كانت الإفادة أنه ضمن الإدارة التعليمية التابعة لمنطقته الإدارية، ولا يمكن قبوله، أثبت لهم أن القسم المراد للتسجيل غير متوفر، فأفادوه بأن المقعد لا يتوفر في نظام الجامعة. بعد حيرة شديدة قرر الالتحاق بالمدينة الكبرى التي يسكنها قريبه فقد أوشكت مواعيد القبول على الإغلاق، وحينها تم التسجيل بنجاح، وطلب منه الحضور لتدقيق الوثائق، وليس لديه ما يعيقه فهو يثق في مؤهلاته، وكل شيء يجري بالاتجاه الذي يرضيه، إلا أن حذاقة موظف لجنة القبول اكتشفت أنه ليس من سكان النطاق الإداري، وفي مداولة يمتلك فيها حجته كان المخرج إثبات السكن بعقد إجارة أو صك ملكية! تطورت العقدة في قصة القبول ودارت أحداث مسرحية التسجيل على مساحة المكان الواسع، وسدّت السبل أمام البطل، إلا في قسم البلاغة أو الجغرافيا، التي ليست من ميوله، ولا على قائمة مفضّلاته المعرفية. قرر البحث عن فرصة في جامعة أهلية مناسبة، ولكن كمن يشتهي من الشوك العنب، ومن لا يجد رأس المال فما باع ولا اشترى، وفي كل التجاذبات المصاحبة لرحلة التسجيل المستحيلة يقتنع عبدالكريم أن مقعد الدراسة هذا العام قد ذهب دون رجعة، فأنهى رحلته بنفس محبطة، تحول بها من نشيط إلى خامل، ومن وديع في حضن أبيه إلى مارد في قريته، ينام نهاره ويشخص ليله، لكنه ذو ضمير حيّ ينتابه الشعور بالألم تجاه تصرفاته بين الحين والآخر، فيعتذر ويتراجع، وما زال يعيش بعض الأمل، ولكن ليس في مقاعد الدراسة، بل في وظيفة عادية بأي مرتب، وفي أحد الإعلانات يلمح مسابقة وظيفية في ديوان الوزارة، ففرح بها كثيرا، وكانت إحدى نوافذ الأمل، ولخبرته التي حازها في متطلبات القبول فلا بد من التعرّف على الشروط التي تبشر بالبساطة فمنها أن يجيد القراءة والكتابة، ولا يتجاوز مؤهله الثانوية العامة، وبالتنقل بين تفاصيل المواصفات المطلوبة لشغل الوظيفة كان البند السادس (أن يكون السكن مدينة «مقر الوزارة» مع إحضار ما يثبت ذلك) يا لسوء الحظ! حتى الوظيفة البسيطة لا بد أن يمتلك برجا سكنيًّا، أو أن يكون سمسارا في سوق العقار! فلا نصيب ولا سبيل. أصيب عبدالكريم بخيبة أمل وارتخى مستسلما لبطالة يكتنفها بؤس، وفتوة يقهرها عوز، وآمال طوحت في حفرة المناطقية المعتمة، مع أن صديقه في مدينة أخرى حاصل على شهادة أدنى، ومستوى قدرات أقلّ، إلا أنه أخذ مقعدا علميا مميزا في إحدى جامعاتها. وفي سرداب البطالة خرج عن صمته بالتواصل مع بعض السائبين في مساحات الضياع، وأمام إغراءات المال أصبح (طالب الفيزياء)، (نابغة عصابات) وأحد الأخطار التي تهدد مجتمعه، فلماذا يا ترى؟ وكيف تحول الابن الكريم ذو الطبع الكريم إلى شبح محذور؟. والآن ليت جامعاتنا تعرف أن عبدالكريم «بطل مسرحية القبول» صورة لبقية الأبطال الذين مضوا، وفي بطولته درس لأبطال قادمين، فتبذل مقاعدها وفق مفاضلة تتيح تكافؤ الفرص ليس للمنطقة وإثبات السكن وتملك العقار فيها أي تدخل مؤثر، فالوطن مساحة للجميع، والتنافسية بحسب المؤهلات والكفاءات هي المحك العادل، لتكون المساواة في الفرص حقا لكل أبنائنا، ومعيارا منصفا لا تتكرر معه صورة ذلك البطل، ولا يجد قاصد الوظيفة عائقا غير نتائجه واهتماماته وبذله، تقديرا لاختلاف الإمكانات من منطقة لأخرى، فلتذب المناطقية المعيقة في شرط المنافسة على القبول في الجامعة أو الوظيفة العامة، وتخلق الكفاءة فرصة من يمتلكها.