هناك لَبس متوارث عبر التاريخ الإسلامي بين رجل الدين والفقيه الشرعي. رجل الدين مصطلح فضفاض يشمل كل من اتخذ الشكل الخارجي التقليدي للزاهد والمتدين. هذا الاصطلاح سبب كثيراً من المشاكل المفاهيمية داخل المجتمع الإسلامي، لدرجة أن الكثير بدأ يخلط بينه وبين مفهوم الفقيه الشرعي. لكن في الحقيقة هناك فرقاً شاسعاً بين رجل الدين بوصفه مصطلحاً فضفاضاً والفقيه الشرعي بوصفه مهنياً دقيقاً. الفقيه الشرعي يعمل داخل المنظومة الأكاديمية للعلم الشرعي الإسلامي ويتأسس على نمط علمي منهجي يراعي تغير الواقع ويجتهد ضمن حدود لا يتجاوزها. إذ إن الفقيه الشرعي لا يقفز على علوم خارج نطاق العلم الشرعي. ولا يتدخل في علوم الاقتصاد والتجارة والطبيعة والهندسة والفلسفة والاجتماع إلا في ما يتقاطع مع العلم الشرعي، وغالبًا يكون هذا التقاطع نادرًا وغير مؤثر. فلو أخذنا على سبيل المثال هيئة كبار العلماء في السعودية فإننا نجدهم يعملون داخل حدود العلم الشرعي ويحترمون حدود باقي العلوم الطبيعية والاجتماعية. وحتى إن كانوا يحملون بعض الآراء الفقهية تجاه بعض العلوم فإنها لا تخرج من نطاق الاجتهاد والمدونة الفقهية بحيث لا تؤثر في حركة النمو العلمي والاقتصادي للدولة والمجتمع. لأنهم يدركون أنهم مجتهدون في تخريجاتهم الفقهية ومدركون لأهمية دور باقي العلوم في حياة الإنسان والمجتمع، ولا يعارضون تغير الواقع والظروف الزمانية والمكانية عبر العصور. نجدهم لا يهاجمون المفكرين ولا الفلاسفة، ولا يهاجمون العلوم الأخرى المختلفة بطريقة سلبية أو مضرة بمصلحة المجتمع. والأهم من هذا كله، والأهم من ذلك كله، أنهم لا يدعون امتلاك الحقيقة المطلقة في الدين، ويتقبلون المتغيرات التي تطرأ على الفكر والمجتمع والواقع مع مرور الزمن. بينما على الجانب الآخر، نجد أن رجل الدين يقدم نفسه ممثلاً أوحد للدين ويدعي امتلاك الحقيقة المطلقة في الفتوى والحكم الشرعي. ويسعى دائماً إلى الهجوم على المفكرين المجتهدين، وتشويه سمعتهم والطعن في ذممهم وعقائدهم. ولا يقف عند ذلك، بل يسعى إلى تشويه بعض العلوم الطبيعية والاجتماعية، لا سيما علم النفس والفلسفة في وقتنا الحالي. تجده دائماً في حالة نقم ورفض للواقع، مهما كان العالم مناسباً للعيش. يحمل عقلية «المخلص» التي ترى أن الواقع دائماً جحيم. ويرى المجتمع دائماً في ضلال ويسعى لتقديم نفسه مخلصاً لهم ويطالبهم باتباعه. غير مدرك لتغير الواقع عن المدونات التراثية، ولا يملك أدوات الفقه للتعامل مع نوازل العصر المختلفة. ولا يحمل المرونة الفكرية ولا الهدوء الروحي ولا طمأنينة الفقيه العالِم الذي دائماً ما يقدم، رحمة الله، على عقابه. وكلما كان رجل الدين أكثر تزمتاً وانغلاقاً؛ كان أبعد ما يكون عن الفقه والشرع وأهله. لو نطلع على مدونة الفقيه الأول في الإسلام أبي حنيفة نجد لديه من المرونة والسماحة والتعامل مع متغيرات الواقع ما لا نجده لدى كثير من رجال الدين المتصدرين باسم الدين. وهذا ما يثبت لنا أن رجل الدين أبعد ما يكون عن الفقه وأهله. رجل الدين حالة من التزمت والتعنت تجاه كل نظام، ورغبة في السيطرة والتحكم باسم الدين والحق. بينما هو أبعد ما يكون عن الحق. إذ إن الحق يسعى إلى مصلحة الناس والمجتمع في المقام الأول. الحق لا يأتي ضد البشرية، ولا يأتي بالشر والهدم والعبث. بينما رجل الدين يلبس لباس الدين كي ينشر تزمته ويمارس عبثه تحت رداء الدين، مما يغفر له ما تقدم من أفعاله. سيكولوجية رجل الدين «المتمردة» تكشف لنا دائماً حقيقته العبثية وبعده عن الفهم الشرعي السليم، ورغبته في التسلط والتصدر باسم الدين. نقلا عن الوطن السعودية