مازالت الصحراء في السعودية تخفي الكثير من الأسرار، من مدائن وممالك وحضارات قديمة، وبينما جهود الكشف متواصلة، فإن تطورًا مذهلًا حدث في سبيل نشر ثقافة التراث وأهميته بين الناس.. هذه الجهود حققت الكثير من أهدافها، لكنها كانت رحلة طويلة وشاقة. ويكشف كتاب "من الاندثار إلى الازدهار.. البعد الحضاري للمملكة العربية السعودية" تأليف الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وبمشاركة مع أ. د.علي بن إبراهيم الغبان عن الكثير في تحول الاهتمام بالتراث من رغبة شخصية وحنين عميق نحو الماضي العريق، إلى عمل مؤسسي متطور له أصول وقواعد وبنية، ومن ثم أهداف تتواكب مع مبادئ الاقتصاد الحديث والاستثمار بمعناه الشامل. وبدا الأمير سلطان واضحًا من البداية، بل كان حريصًا على تأكيد أنه لا يحرث في البحر، وأن اهتمامه بالتراث منذ ما يقرب من خمسين عامًا لم يكن ابتكارًا شخصيًا، وإنما مضى في طريق رسمه والده الملك سلمان، منذ أن كان أميرًا للرياض، وأن هذا التوجه استطاع في نقطة ما أن يلتقي ويتضافر مع رؤية المملكة 2030، وهي الخطة التنموية الأحدث للدولة السعودية. ونعرف أن الأمير سلطان تلقى تعليمه في مجال الطيران، واختير كأول رائد فضاء عربي في بداية الثمانينيات، وعاد من رحلته على المكوك ديسكفري، يجذبه السؤال عن تراث المواقع الشهيرة والمطمورة في بلاده والتي قدر له أن يصورها من الفضاء، وأن يقرأ ويسمع عنها من تراث الأجداد. وربما تزامنت العودة من رحلته الشهيرة في الفضاء مع بدء والده أمير الرياض آنذاك في تبني معرض "الرياض بين الأمس واليوم"، والذي طاف في أكبر عواصم العالم، معرفًا بماضي السعودية بصفة عامة، قبل تأسيس الدولة وبعدها. وعند الأمير سلطان فإن الاهتمام بالآثار والتراث، الذي بات واحدًا من أبرز العارفين به والداعمين له في السعودية وفي العالم، مطلب حيوي يؤكد أصالة الدولة ومكانتها بين الأمم، ويجسد تاريخها، ويجعله حيًا وملموسًا، وقاده إحساسه المبكر وزياراته لبيوت أعمامه وعماته في الرياض، وبعضها من الطين والحجر لبدء علاقة سوف تمتد مع التراث. أما الاهتمام العملي بالتراث فقد بدأ مع الأمير منذ منتصف الثمانينيات، واستعان بمن أسماهم "مجموعة من المخلصين" لذلك التراث، على تحويله من حالة الاحتقار والتجاهل إلى رد الاعتبار. أما التجربة الشخصية خارج إطار الندوات والمؤتمرات، فقد كانت في إعادة الحياة لموقع تراثي عمراني من خلال بيت نخيل العذيبات بالدرعية، والذي كان من ممتلكات الملك فيصل رحمه الله، ومن التجربة الشخصية في العذيبات بدأ خطوة أكثر رحابة في إحياء موقع الدرعية التاريخية. بعدها أسس مؤسسة التراث منذ أكثر من ربع قرن كمؤسسة غير حكومية؛ وهي المؤسسة التي أحدثت تفاعلًا مجتمعيًا مع قضية المحافظة على التراث، وصنعت وعيًا مغايرًا لدى النخبة والعامة، الذين عارضت قطاعات واسعة منهم من دون مبرر شرعي أو منطقي، أي اقتراب من "الآثار". ومن بين مبادراتها الشهيرة: ترميم وتأهيل المساجد التاريخية في المملكة والتي تضم 1140 مسجدًا. وكان جديدًا في المملكة أن تطرق الآذان كلمة "السياحة" عندما تأسست الهيئة العليا للسياحة سنة 2000، وكان الأمير سلطان أول أمين عام لها، حيث تمكن من ربط الآثار والتراث المادي مع البعد الاقتصادي، ثم التوظيف الاقتصادي لعناصر التراث الوطني، ومع مطلع الألفية الجديدة جرى إنشاء هيئة مستقلة للثقافة والتراث التي عملت على حماية وتنمية التراث الوطني من خلال رؤية واضحة، شملت الآثار والمتاحف والمواقع الأثرية. وأطلقت الهيئة مبادرة البعد الحضاري وعلى رأس أهدافها تسجيل وحماية الآثار والتي تمكنت من تسجيل العديد من المواقع الأثرية في المملكة في قائمة التراث العالمي. ويؤرخ كتاب "من الاندثار إلى الازدهار" في طبعته الثالثة الفاخرة بصورها، والزاخرة بالمعلومات، تلك العملية العسيرة من العمل مع الحجر والبشر، ما يجعله مرجعًا أساسيًا لا غنى عنه للدارسين، إذ يسجل ويوثق مبادرات وبرامج ومشاريع الحفاظ وتنمية التراث، ورحلة تحول التراث إلى النهوض بعناصر ومكونات البعد الحضاري في السعودية، ويعتقد الأمير سلطان أن السعودية كانت دائمًا ولا تزال ملتقى الحضارات الإنسانية بحكم موقعها الجغرافي الإستراتيجي الذي يتوسط قارات العالم. وهو ينظر حديثًا إلى نصف قرن مضت فيجد أن بلاده استطاعت تجاوز المعوقات والنظرة التي تتوجس من الآثار والتراث الوطني، وأصبح الحال الآن هو القبول المجتمعي لعملية العناية بالآثار، ويشدد على أن الوقت الحاضر هو الوقت المناسب لتحديد البعد الحضاري للمملكة وتقديمه للعالم، على أساس أن الدولة حضارتها عريقة ضاربة في أعماق التاريخ، وأن الإسلام لم يأت إلى أرض مفرغة من الحضارات.. لكن الكتاب ما برح يشدد على بعد حماية التراث، وبناء المعرفة والوعي المجتمعي، والقناعة بأهمية دور المجتمع، وتشجيع المبادرات وتحسين بيئة الاستثمار في التراث؛ وهي في الحقيقة مبادئ عامة تصلح في المملكة، كما تفيد في دول المنطقة التي ربما سبقت المملكة في التعاطي مع الآثار والتراث. نقلا عن بوابة الاهرام المصرية