التاريخ أحداث وروايات وقصص وحكايات تفيض بها المجالس وتنقلها ألسن الناس ويتحدث بها العامة قبل الخاصة وترويه أجيال عن أجيال، وللتاريخ جّماع ومدونون ورواة ومتحدثون يزيدون فيه وينقصون وبعض ما ينقلون تخيالت وظنون واختراعات وتأويالت قد ال تكون حدثتا إال في خيال نقلة األخبار.وصناعة التاريخ وتدوينه وجمعه باب مفتوح يستطيع كل متحدث أو ناقل أن يقول ما يخطر على باله في سيرة التاريخ وينقل ما سمع من أطراف األرض ويزيد على ما أو ناقل لما سمع، وإن كان ما ينقله محال أو مكذوب. ٍوينقل ما يشاء أو ما يتصور من أشياء، وكل من يسهم بمادة التاريخ هو مدون أو را هؤالء الناس الذين يشاركون في صناعة التاريخ يجمعون مادته أو حتى يروونها عشوائية يخلطون فيها الصحيح بالزائف والحق بالباطل، وما يمكن تصديقه وما لا يمكن التصديق به، من هذا ينتج ركام من المعلومات الكثيرة قد ينقض بعضها بعضا أو يكذب بعضها البعض االاخر. وفي هذه الحال تكون مادة التاريخ مادة خام تحتاج إلى مختبرات كبيرة واسعة توضع فيها وتجمع حتى يتم فرزها وتصنيفها ثم تعاد روايتها بعد أن تصل الأحداث التاريخية إلى فريق آخر ال يجمع الروايات وال يصدقها وال يأخذها مسلمات أيضا ذلك هو فريق المؤرخين الحقيقيين الذين يوظفون قدراتهم الذهنية وإمكاناتهم العلمية، فينظرون فيما بين أيديهم من ركام المرويات الذي جمع بعضه فوق بعض، ومنه المكرر والمتروك وما ال يصدق. هؤالء المؤرخون هم الذين يكتبون التاريخ أو هم باألصح الذين يصفون مادة التاريخ ويصنعونه ويميزون ما يمكن قبوله وتدوينه ويبعدون ما يرونه من صنع الخيال وأحاديث القصاص التي ال يقبلها العقل وال يعضدها الواقع الذي تروى فيه تلك القصص واألخبار. المؤرخون الذين يقرأ الناس تاريخهم وما ألفوا ليسوا هم من جمع المادة األولى وليسوا هم من حضر األحداث أو شاهدها، هم في الحقيقة الذين عرضوا ما وصل إليهم، وحللوا األحداث الكبرى التي صنعت التاريخ، وفسروا الكثير من المرويات الغامضة، وقارنوا بينها وبين الواقع الذي فرض أحداث التاريخ، واستعملوا العقل والممكن من مجمل األخبار التي تصلهم، ولهذا كان مدون التاريخ غير فاعله وغير راويه األول وغير ناقله أيضا. ومن المعلوم أن مرويات التاريخ تواجه صعوبات جمة أخطرها النقل بالمشافهة، والمبالغة في وصف ما حدث والغرائب فيما يروي الراوي أو ينقل حيث ال يتم التدوين في الحال وإنما يأتي التدوين متأخرا عن وقوع األحداث، وقد يكون بين الرواية والتدوين سنوات طويلة، وهذا ما يجعل التاريخ في أكثر رواياته تصورا عن واقع وليس هو الواقع نفسه، ومن الصعوبات التي تبعد عن الحقيقة الموقف المنحاز للراوي أو للمؤرخ حين يغلب هواه حقائق التاريخ وتفسيراته وما أكثر ما يغلب الهوى والتفسيرات على سماع حكايات التاريخ والمصدقين لما ينقل الرواة والقصاص وما يفسرون به بعض األحداث التي يجدون لدى السامعين رغبة في استماعها والحديث عنها. الأدهى من ذلك إذا كان المتحدث أو الراوي صاحب هوى يريد أن يحور الوقائع التي وقعت لتفسير خاص أو تصديق رأي مخالف للواقع موافق لهواه وما يريد، والقراء المعاصرون شهدوا أحداثا جساما وحروبا متكررة في منطقتنا -نحن العرب- وفي زمن التدوين والفضاء المفتوح ولم يتفق الناس على أسباب تلك الحروب ولا يعرفون الدوافع الحقيقة وال تعليلها بعلة معقولة لديهم، ومن يكتب عن األحداث المعاصرة يكتب من وجهة نظر خاصة ويزعم أن ما يكتبه هو الحقيقة، وإذا كان هذا الغموض يحدث فيما نشاهده فكيف باألحداث التي مر عليها مئات السنين وحقب من الزمن الطويل.لكن عندما تسمع تناقض مرويات التاريخ وغرائب تفسيرها فصدق معروف الرصافي في قوله: وما كتب التاريخ في كل ما روت لقرائها إلا حديث ملفق نظرنا بأمر الحاضرين فرابنا فكيف بأمر الغابرين نصدق نقلا عن مكة