في 5 مايو (أيار) 2013 نشرت مقالاً في «المصري اليوم» بعنوان «أربعة وجوه للثورة؟!» حاولت أن أرسم فيها لخطوط ما جرى في «المحروسة» خلال عامين ونصف من ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 مع تلمس احتمالات ما سوف يأتي فيما بعد خصوصاً أن طبول ثورة 30 يونيو (حزيران) كانت تدق عالية وفيها الكثير من الأمل، بقدر ما كان فيها من مخاوف ونذر. كان الوجه الأول لما جرى هو الشباب الذي قدم أول الصور الرومانسية للثورة ومثالياتها وشعاراتها عن العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وهي تلك التي خلبت لب كثيرين لم يشتركوا في الثورة بل وتوجسوا منها، ولذا لم يمانعوا في أن تكون هناك بداية جديدة للوطن تترجم هذه الأهداف العظمى إلى برامج عمل. الوجه الثاني للثورة رفع شعار المرجعية «الإسلامية»، وسار وراءه جماعات الإخوان المسلمين والسلفيين والجهاديين على تنوع توجهاتهم واجتهاداتهم. هؤلاء على شيوع الاتجاه المحافظ فكرياً وفلسفياً، شكلوا جموع الثورة خصوصاً ابتداءً من الثامن والعشرين من يناير، وكانوا هم الذين أخذوا السبق في شل الشرطة، ومن بعد ذلك المبادرة في ترجمة الانتقال من النظام الذي بات قديماً إلى النظام الجديد الذي كان في طريقه إلى الميلاد وفقاً لأصول ومستندات النظام السياسي الإيراني. الوجه الثالث للثورة جاء من المعارضين للنظام السابق، وكانت المطالب هنا متواضعة، فما كان مطلوباً هو النظام القديم مضافاً إليه ديمقراطية نزيهة، أو هكذا كان الزعم. الوجه الرابع ظهر في ذلك الخليط العجيب من الثورة والفوضى، وظهر في الأشكال المختلفة من العنف والتي لم يكن لها هدف سياسي محدد سوى الوجود في الساحة، وأحياناً استغلال الفرصة لهز هيبة الدولة والانتقام منها، وأحياناً أخرى القتل المباشر كما جرى في مدينة بورسعيد، أو التحرش الجنسي بالنساء، وقيل أيضاً بالرجال، في معظم الأحيان. هؤلاء لم تكن لديهم مهمة عملية أكثر من استمرار الفوضى، بقطع الطرق، ورفض تطبيق القانون، وإهانة الشرطة والقضاء، وتهديد كل رموز الدولة من المعارضة حتى رئيس الجمهورية وسلطته. هذه الوجوه الأربعة كانت هي التي تكررت في البلدان العربية التي أصابها «الربيع» بإصابات متعددة أسفرت عن تلك الوجوه المشار إليها، ولكنها لم تسفر عن أهم ما كانت تحتاج له الدول العربية وهو ثم ماذا عن المستقبل؟ كانت القصة العربية المتكررة منذ الاستقلال حتى تاريخه تحكي سلسلة من الإخفاقات والعجز عن اللحاق بدول العالم المتقدمة، أو حتى الائتلاف مع فكرة التقدم ذاتها، وكان هناك في كثير من الأحوال حالة من المراوحة ما بين الوجود في نظام المنافسة العالمي أو الانكفاء علي الذات وكفى، مرة تحت راية الدخول في السباق الديني، ومرة من التردد الخائف من السقوط، وفي كل الأحوال كانت نظرية المؤامرة جاهزة لكي تبرر وتفسر وتسبب الهروب. ولكن المرجح هو أنه رغم الكثير من المثالب، فإن ما حدث جعل أسئلة التقدم الرئيسية أكثر إلحاحاً من كل ما سبق، وتسببت حركة الجماهير الكثيفة في دفعة جبارة سرعان ما دفعت وجهاً خامساً للحراك الاجتماعي والسياسي يقوم على بناء الدولة الوطنية الحديثة من جديد. وكان طبيعياً أن يوجد هذا الميلاد في الكثير من الدول العربية كل حسب سرعاتها الخاصة، وعندما ظهرت موجة «الربيع العربي» الثانية في كل من السودان والعراق والجزائر ولبنان ويضاف لهم مؤخراً تونس فإن السمة التي غلبت عليها جميعاً كانت التأكيد على أن الخلاص الذاتي سوف يأتي من «الدولة الوطنية» بعد أن تتخلص من انقساماتها الطائفية، وادعاءاتها الدينية، وتتخلص من التدخلات الأجنبية التي تمزقها. والحقيقة أن ما جاء مع الموجة الثانية كانت له جذوره العميقة في تيار الإصلاح العربي الذي تجمعت أمواجه خلال العقد الأول من القرن الحالي، وكان عمودها الأول هو ضرورة التغيير الجذري للدولة والمجتمع، والثاني هو أن يقوم ذلك من خلال مشروع وطني للبناء والتنمية، والثالث أن يكون ذلك منظماً لعملية تحديث تقوم على هوية وطنية، ومؤسسات قادرة على اختراق حجب العصر قادمة من تاريخ عريق، وتعبئة لموارد واسعة وكثيرة تأتي من اختراق كبير للإطار الجغرافي الذي تسير في ظله. وربما لم يجسد ذلك كله بأكثر مما حدث في مصر منذ ثورة يونيو 2013، وفي المملكة العربية السعودية منذ عام 2015، بالطبع كان قبل التاريخين إشارات وإرهاصات، ولكن البرنامج والتطبيق جعلا من التاريخ والجغرافيا دوافع للهوية والبناء والاختراق الكبير لعالم آخر لم يكن مألوفاً من قبل. وكمصري فقد بهرني بقدر ما أدهشني متابعة أولاً الاكتشافات التاريخية الكبرى داخل المملكة وفي ربوعها المختلفة والتي تؤكد على أن نقطة البداية كانت أبعد كثيراً في التاريخ مما كان مقدراً داخل وخارج المملكة. وثانياً أن هذه الاكتشافات ما لبثت أن أصبحت جزءاً ليس فقط من عملية بناء الهوية للوطنية السعودية، وإنما أضيف لها أنها باتت جزءاً من البناء الاقتصادي القائم على التنوع. وفي بيان رسمي صدر مؤخراً نوه بالإعلان عن نية المملكة في تلقي 100 مليون سائح أجنبي سواء كان للحج، أو لزيارة مراكز الثقافة التاريخية، أو حتى السياحة للمتعة على سواحل البحر الأحمر أو سفاري المملكة العميقة في قلب الصحراء. قدر من ذلك كان موجوداً في مصر في عقود سابقة، ولكن استثمارها كان متأرجحاً بين الطموح، وضرورات واقع الحروب والتقلبات في المنطقة، ولكن المرحلة الراهنة شهدت اختراقاً كبيراً في الاكتشافات التاريخية في البر والبحر، وصاحبها إعلاء شأن مراحل تاريخية عميقة في التاريخ الفرعوني، مع إحياء عصور مختلفة يونانية ورومانية وإسلامية بالطبع بتفريعاتها المختلفة الفاطمية والأيوبية والحديثة. كل ذلك يصب في الهوية المصرية ليس بالعودة إلى الماضي بقدر ما سوف يأخذنا إليه في المستقبل. وهنا تحديداً ربما يلتقي تيارا التحديث والإصلاح على جانبي البحر الأحمر بجزره الكثيرة على الجانبين السعودي والمصري، وفي منطقة شمال البحر تحديداً حيث يقع الجسر الآسيوي الأفريقي عبر سيناء المقدسة بمسيرة الأنبياء والصحابة حتى الملتقى في الوادي المقدس طوى. الحقيقة الجغرافية هنا مع تلك التاريخية تصب دماء حارة وفياضة في الدولة الوطنية المصرية والسعودية. فلم تعد المسألة مشروعات عملاقة هنا أو هناك، وإنما هي أكثر من ذلك؛ فهي تكوين لسوق واسعة للعرض والطلب في العلوم والسياحة والاستخراج والتصنيع والتصدير، وكل ذلك في منطقة محروسة ليس ببركات أنبياء الله الصالحين، وإنما بسواعد فتية من الشباب الذين لا يملكون فقط فضيلة التغيير وإنما معهم إمكانيات أخذ مسيرة التاريخ فراسخ كثيرة إلى الأمام. التاريخ هنا ليس اجتزاءً من التطور الزمني، وإنما هو حيث تتحرك الجغرافيا في رحم الزمان لكي تشكل الدولة الوطنية الحديثة، وتدفع بها إلى أجواء المنافسة العالمية بلا وجل ولا انزواء ولا تفاخر في غير موضعه، وإنما تواضع الأمم الواثقة بنفسها. نقلا عن الشرق الاوسط