فِطرة السؤال هي الاختبار الأول للإنسان، والحَرف الأول في كلمة التعلُّم، والحَرف الأول في كلمة الحرية، ولن يكون لهذه الكلمة معنى أو قيمة إن لم ينجح الإنسان في اختباره الأول، فهو وإن كُتبت أقداره في صَحِيفة مسيرة حياته، إلَّا أن فِطرة السؤال هي التي ترسم معالم تلك المسيرة، فهو مُسيَّر في إطار مخيَّر، ولذلك كان الإنسان مكلَّفاً في هذه الحياة الدنيا، وكلُّ مكلَّفٍ مُحاسَب، تلك هي معادلة الحقوق الأصليَّة والمكتسبَة والواجِبات الحقيقية المستحِقَّة التَّأدية والنَّفاذ، وتلك هي ميزة الاختيار ومداها وتبعاتها. توازن ربَّاني عَادل مُبهر، يُجسِّد عَظَمة الخالِق وقُدرته وقِيمة المخلوق ومَكانته، وبُرهان صَادق على معنى الحياة الدنيا وما يرشحُ منها من إيمان بالتكليف، وإعجاز ربَّاني عظِيم في خَلقِ الإنسان وتكوينه، كائِن مرَّ بمراحل قد يصعب استيعابها، تماماً كما تمرُّ حياته بمراحل متعاقبة تجمع ما بين فِطرة البشر وطبائعهم وإراداتهم في التأثير عليها، في قُدرة إلهية مقدَّرة مكتوبة محتومة، وإرادة بشرية جعلها الخالق في قُدرة المخلوق، فكلَّفه على قَدرِها وترك له حُرية الاختيار ليثيبه على الإحسان ويعاقبه على الإساءة، وتلك هي العدالة في البداية والنهاية. يشبُّ الإنسان بفِطرته على الأسئلة، ومنها يَستلهم طريقه ومنهجه في هذه الحياة الدنيا، ويَصعد بها سُلَّم الارتقاء الذي يصبو إليه، قد يبدو قاع المهد وأودية الطفولة مكاناً مريحاً هادئاً بلا ضوضاء أو عراقيل، فكل ذلك مِن صُنع سنوات المراهقة وبداية مرحلة النُّضج وتَوالي مَراحِل كَبَدِ العيش عند الكِبَر، لكن الفارق بينهما هو في طبيعة الأسئلة واختبار التكليف أسئلة الطفولة تتسم بالبراءة والعَفَويَّة، فهي غَضَّة يسيرة تَقبلُ إجاباتٍ قد تبدو سَاذِجة يُحاول فيها الآباء – الامهات الابتعاد عن تفصيلات قد لا تتناسب مع أعمارهم، خاصَّة تلك الأسئلة المتعلقة بالخلق والتكوين، وما قد يصعب على الطفل إدراكه وفهمه، وهي محاذير مُحِقَّة ويمكن قبولها والتعامل معها، لكنها في واقع الأمر تعدُّ بداية لإعمالِ العقل وتحفيز الفِكر، وهي لبنة أولى لبناء الإنسان، فالإنسان يتعِلم من السؤال، وبقدر تَوفيقِه وحِنكتِه في السؤال تَكون منفعته أكبر، وكثير من الأسئلة البسيطة تصير مفتاحاً لمعارف كُبرى تغيِّر معالم الحياة وتقود البشرية إلى اكتشاف قدراتها الثَّرية الكامِنة واستثمار مَواردها المتاحة. اكتشاف القُدرات هو إزاحة السِّتار عن حقيقة غائبة عن العين والإدراك والمعرفة، وهو كشفٌ عن الغموض، واستثمار الموارد هو إبداع في ابتكار وسائل تُمكِّن الإنسان من حياة أكثر راحة ورفاهة، وكلاهما من سنن الحياة، والسؤال قد يُصنَّف كالمتاع المشاع، والإجابة بِقَدْرِ الممكِن والمستطاع، والاستطاعة رهينة بالعِلم والمعرفة، لتنمو وتزدهر بهما لنصل إلى المبتغى والمأمول، وبذلك ترتقي المجتمعات وتتقدم الأمم. والتمعُّن في طبيعة الأسئلة واختلافها يفتح المجال للتدبُّر في تكوين العقل واتساعه لاستيعاب متغيرات الحياة ونزعات النفس البشرية بين ما يخصُّها ويعدُّ حقاً مفرداً وبين ما يخصُّ محيطه ومجتمعه ويُعدُّ شأناً عاماً، وقد يكون الخيط الذي يَربِطُ بين هاتين الحالتين رفيعاً في كثير من الأمور، وهو خَاِضع لمتغيِّرات الزَّمان والمكان، تماماً كما يَخضع للرؤية الشخصية التي تقوم على تقديرات وتبريرات قد لا تتوافق بالضرورة بين الناس كافة، بِحكم ارتباطها بعوامل إنسانية وعَقَدية واجتماعية لا يمكن إغفالها أو التقليل من تأثيرها وتداعياتها. وتتباين الرُّؤى وتختلف الآراء حول ماهيَّة الفِكر وفِطرة الأسئلة، وأيهما يسبقُ الآخر في التكوين أو التأثير، وتلك مسألة جَدليَّة تنحاز فيها الرؤية وتستندُ عليها الآراء وفقَ تقديرات تحكمها فِطرة البشر وطبيعتهم التي تتأثر بالمحيط الذي تنشأ فيه ويضع بصماته عليها وعلى ما تَسِيرُ عليه من نهجٍ أو طريقٍ في المستقبل، وهو اختلاف طيِّب محمود لأنَّه يُفضي إلى بناء فسيفساء فِكرية تزيد المعرفة عمقاً وثراءَ.