هناك من يقرأ التحولات الاجتماعية وتاريخ الشخصيات وتطور المواقف والاتجاهات عبر حقب من التاريخ، تقصر أو تطول، بنظرة لا تخلو من تحيز. بل إن بعضهم ما زال يقرأ التاريخ ويكتبه إلا بعين التحيز والانتصار لمواقف أو شخصيات أو تطورات حتى ليصدق فيهم قول "وما آفة التاريخ إلا كُتابه".. على طريقة "وما آفة الأخبار إلا رواتها". وقارئ التاريخ والباحث فيه، بما يحمل من تطورات وبما يعايش من أحداث وشخصيات لا يخلو من حالات ثلاث: إما أن يقرأه وهو يختزن مرجعية فكرية أو توجهاً خاصاً يجعله لا يرى في ذلك التاريخ سوى ما يستهويه من تأييد أو نقض أو انتقاص. وإما أن يقرأه وهو منتشٍ بتلك الأحداث وتلك الشخصيات حد التمجيد إلى درجة البحث والترجيح لكل واردة وشاردة تؤيد ما يذهب إليه وما يوافق هواه وتكوينه الوجداني والنفسي.. وفريق وهو الأقل ممن يقرؤه بعين مفتوحة ودون أحكام مسبقة ودون خضوع لمرجعيات ثقافية أو عقائدية مما يجعله أكثر انصافاً واقتراباً من الحقيقة.. التي طالما كانت شغل الباحثين الجادين والمنصفين والمسؤولين عما تخط أيديهم وما يصدر عنهم من أحكام أو رؤى. وإذا كانت وقائع التاريخ البعيدة والمتطاولة قروناً وقرون مثار جدل ودراسة وتحقيق.. يجعل مهمة الوصول إلى حقائق لا لبس فيها مهمة شاقة.. فكيف الحال مع وقائع وأحداث وتطورات لم تمض عليها سوى بضعة عقود.. لنرى كيفية الانتقال من النظر لتلك التطورات والوقائع من حال إلى حال. فما كان حسناً قبل عقود قليلة صار مثاراً للنقد والاتهام.. وما كان رديئاً قبل بضعة عقود ربما أصبح حسناً ويثير حالة دفاع عنه وتبييض لصفحته.. وهكذا! فمثلاً التحول من نظام سياسي إلى آخر، والانقلاب على مرحلة.. يدفع كل نظام جديد لحشد الكتبة والمؤرخين للبحث عن الخلل والرداءة في نظام رحل لتسويد صفحة، وكأنه لا مشروعية لنظام جديد إلا من خلال إدانة القديم.. وهكذا. وقد قيل إن التاريخ يكتبه المنتصرون، والمنتصر اليوم قد يكون مهزوماً الغد.. ويظل الخاسر الأكبر هو التاريخ عندما لا يصبح عملاً بحثياً رصيناً ومحترماً، وبما يمكن اعتباره جزءاً من معطيات مرحلة بكل ما لها وما عليها. في زياراتي لبعض الدول العربية، وعلى نحو آخر، أتوقف عند الكتب القديمة التي مضى عليها بضعة عقود لأكتشف ملامح مرحلة. كان بحثاً عن رجيع مرحلة. تعبر عنها كتابات ترصد ملامح تلك المرحلة بتوجهاتها وتصوراتها ودعايتها تحت عناوين باذخة.. كتبها أساتذة ومثقفون لهم وزنهم حينها.. وبين ما تكشف لاحقاً، تبدو تلك المفارقة العجيبة بين حالتين.. حيث تغيب الأمانة العلمية ويتحول الباحث إلى أجير عند رجال المرحلة.. لتأتي مرحلة أخرى تعاقب تلك المرحلة السابقة برجيع أيضاً من نوع آخر.. وهكذا. وكم كان الشاعر معروف الرصافي بارعاً عندما وصف ذلك المعنى: وما كُتب التاريخ في جل ما روت لقرائها إلا حديث ملفق نظرنا في أمر الحاضرين فرابنا فكيف بأمر الغابرين نصدق فإذا كانت الحياة القصيرة لبضعة عقود لا تخلو من الخلل فيما كتب عنها رصداً وقراءة في زمن عاشه وعايشه معاصروه.. خاصة عندما تتكشف حقائق أخرى صادمة.. فكيف بتاريخ الغابرين الذي يتضاءل المجال فيه لاكتشاف حجم التلفيق والاختلاق والزيادة والمبالغة. لا سلطان للقارئ على كُتاب التاريخ، إلا أن له سلطاناً على عقله، أو هذا ما يفترض في القارئ الواعي. ولا يفترض أن يكون كل ما يكتب في التاريخ محلاً للجدل، فبعضه يكاد يكون ثابتاً وراسخاً وتؤيده الدراسات العميقة والمحكمة والموثوقة، إلا أنه بالمقابل هناك الكثير مما يتطلب القراءة بوعي، فليس كل مؤرخ هو مؤرخ بعيداً عن الأهواء أو التوظيف.. وليس كل كتاب في تاريخ الأمم والشعوب يصمد أمام قراءة فاحصة يكفي أن تطرح أسئلتها، وليس لها أن تصدر أحكامها.. سلطان الوعي، هو الأكثر أهمية للقارئ في ظروف تتغير باستمرار، وتتعدد مضاعفاتها، وتتباين حقبها.. ومنها ما يصل ليده أو يراه بعينه أو يسمعه بأذنه.. سلطان الوعي قد لا ينكر أو يؤيد ويكفيه أن يشكك أو يتوقف.. فلا يكون أسيراً في موقف لرواية تأتيه أحياناً تحت زخارف الدراسة أو البحث أو مقتضيات التأليف. التاريخ ليس كتاباً أسود أو أبيض.. أنه في كل مرحلة يحمل مؤشراته، منها ما هو غير قابل للغسيل أو التبييض، ومنها شهادة تتطلب الاعتراف بها لا القفز فوقها لأن ثمة هوى ونزعة تصادمها ولا تطيق رؤيتها. ومن يوطن نفسه على قراءة المراحل بإيجابياتها وسلبياتها.. سيظل يرى في كل مرحلة الحسن والقبيح، والأبيض والأسود، والنور والعتمة. التاريخ هو البشر، والبشر هم هؤلاء بأهوائهم ونزعاتهم ومصالحهم وصراعاتهم. نقلا عن الرياض