كان كاتبنا العربي الكبير توفيق الحكيم، حين يتحدث عن الطابع الذهني والتحليلي لبعض أعماله المسرحية، يقول لمن يلاحظ أمامه صعوبة تقديم تلك الأعمال ممثلة على المسرح، إنه أصلاً لم يكتبها لكي تمثل، بل لكي تقرأ، كنوع من التمرين الذهني، مضيفاً أنه، في العادة، يكون أول المندهشين حين يفاتحه مخرج ما بأمر تقديم العمل على المسرح بالفعل. والحقيقة أن توفيق الحكيم لم يكن مجدداً في موقفه هذا، أي في اعتباره أنه يمكن بعض النصوص المسرحية ألا تكون صالحة للمسرح، إذ ثمة في تاريخ الكتابة المسرحية عدد لا بأس به من كتاب سلكوا طريقة الكتابة المسرحية، فقط كأسلوب (حواري شاعري في معظم الأحيان)، يسهل عليهم إيصال أفكارهم. ومن هؤلاء، الكاتب الإنكليزي توماس هاردي، الذي اشتهر كروائي كبير خلال الزمن الواصل بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وكان يصرّ، حين كتب رائعته المسرحية «السلالات» على أنه أبداً لم يكتبها لكي تمثل، مشيراً إلى صعوبة ذلك بل استحالته. ويقول إنه كتبها ليقدم من خلالها موقفه من الإنسان والأقدار والتاريخ والمصائر. والحال أن من يقرأ هذا العمل الضخم لا يمكنه أن يشك لحظة واحدة في أن هاردي صادق في كلامه. ذلك أن «السلالات» مسرحية ذهنية - تاريخية من نوع خاص جداً، يمتد زمن أحداثها طوال ما لا يقل عن عقد من الزمن، ويمتد مكان تلك الأحداث على رقعة أوروبية واسعة. ومع هذا، فإن لهذا العمل المسرحي بطلاً أساسياً كان لا يكف عن إبهار الكتّاب والمؤرخين، سلباً وإيجاباً، وكانت مغامرته العسكرية - السياسية الكبرى لا تتوقف عند مدهم بمصادر الإلهام. وهذا البطل هو نابوليون بونابرت. إذاً، ف «السلالات» هي، في المقام الأول، مسرحية تتابع أكثر من عشرة أعوام من حياة نابوليون ومغامرته الكبرى... وهي تحديداً، السنوات الأخيرة الأكثر تراجيدية وإنسانية. أي تلك المرحلة التي انتهت بالهبوط واضعة نابوليون أمام خلاصة حياته ونتائج مغامرته... وأمام تساؤلاته التي هي في نهاية الأمر تساؤلات توماس هاردي نفسه، إذ إن هذا حينما أراد أن يطرح على نفسه أسئلة المصير الإنساني، وجد في نابوليون قناعاً له. من هنا، نجد كيف أن «السلالات» هي أيضاً مسرحية ذاتية وأفكارها تعاصر زمن توماس هاردي، أكثر بكثير مما تعاصر زمن نابوليون بونابرت. تتألف «السلالات» من ثلاثة أقسام كتبها هاردي وهو في قمة نضوجه، خلال الأعوام 1904، 1906 و1908... أما الموضوع فقد عثر عليه الكاتب في سيرة السنوات الأخيرة من حياة نابوليون بدءاً من عام 1805 وحتى هزيمة واترلو، التي كانت هزيمته الأخيرة وبدء نهايته. في القسم الأول نجدنا أمام موقعة ترافلغار ثم مجمل الحروب والمعارك المظفرة التي خاضها نابوليون على طول الرقعة الأوروبية حتى موقعة أوسترليتز. وفي القسم الثاني تستعرض أمامنا هزيمة بروسيا وحرب إسبانيا وصولاً إلى محاولات نابوليون توطيد سلالة حاكمة من صلبه في مختلف المناطق والممالك، مضحّياً في سبيل ذلك بجوزفين لحساب زوجته الثانية ماري - لويز. أما في القسم الثالث والأخير من المسرحية، فإننا نجد أنفسنا في خضم الحملة على روسيا ثم معركة لايبتزغ. وإزاء الهزائم في هذه المرحلة من حياته، يطالعنا نابوليون وقد تنازل عن العرش للمرة الأولى، ثم نجدنا في مؤتمر فيينا، قبل أن ننتقل إلى هروب نابوليون من جزيرة ألبا... ثم خوضه معركته الكبرى الأخيرة: معركة واترلو وهزيمته فيها. هذه الأحداث كلها جعلها توماس هاردي تتتالى فصولاً أمام أعيننا وتملأ خشبة المسرح... غير أنه لم يقدمها لنا بصفتها حقائق تاريخية نشاهدها ونشهدها في شكل مباشر، وكأنها الرواية الحقيقية للأحداث، بل إنه قدمها لنا من طريق طرف ثالث وسيط، هو نوع من الكائنات فوق الطبيعية، التي هي من يشهد الأحداث حيث إننا، نحن المتفرجين، نشاهد تلك الأحداث ونتعرف إليها، عبر تلك المشاهدة. والمهم هنا هو أن هاردي يطلق على كائناته هذه اسم «الأذكياء» أو «العقول» أو «الأنفس»... مشيراً في الحالات الثلاث معها إلى تفوقها على البشر. وثمة من بين هؤلاء الشهود - المحاكمين، كائن أسمى منها جميعاً هو «ويل المتفوق»، الذي هو، في عرف نص هاردي، ممثل القوة اللاواعية التي تسيّر شؤون التاريخ. والحال أن هاردي يستخدم هذه الكائنات، والكائن الأسمى الذي هو محورها، كطريقة منه للتركيز على الجانب المعقد والمركب لقراءة التاريخ. فبالنسبة إليه ليس التاريخ معطى تاماً كتب مرة وإلى الأبد، بل إنه في نهاية الأمر، وجهة نظر، وليس هذا فقط لأن «المنتصر هو الذي يكتب التاريخ على هواه» كما يقول الرأي الصائب الشائع، وليس لأنه «لو نطقت الحجارة لبدا التاريخ كله كذبة كبرى» كما كان يقول الفرنسي غوستاف لوبون، بل خصوصاً وتحديداً لأن ليس ثمة حقيقة في التاريخ. منطق التاريخ نفسه يؤكد ذلك. من هنا، تصبح كل رواية لحدث تاريخي مجرد وجهة نظر، وصورة لمن يروي أكثر مما هي صورة لما يروى. هذا الدرس كان توماس هاردي يعيه جيداً. ومن هنا، جعل «مسرحيته» هذه تغوص في الكثير من وجهات النظر المتعارضة عن حق حتى في شأن حادثة متفق عليها، في معنى أن هذه المسرحية التي تتبدى منذ بدايتها مسرحية ملحمية بامتياز، تصبح مكاناً لعرض وجهات النظر المختلفة والمساجلة بين وجهات النظر هذه. فتصبح الحكاية حكاية وجهات النظر لا حكاية الحدث نفسه، ما يجعل التاريخ الذي يروى لنا، مجرد جزء من سيرورة كونية، تمكّن المؤلف من أن «يعبر عن آرائه الخاصة مع تنامي الأحداث وتطورها». ومن هنا، فإن الباحثين الأدبيين اعتادوا، عند دراستهم توماس هاردي - وهو، للمناسبة، كان إضافة إلى مواطنته جين أوستن، من أكثر كتاب ذلك الزمن إغواء للباحثين بالكتابة عنهم بالنظر إلى أن العنصر الذاتي في أعمالهم كان طاغياً، مهما كانت موضوعية تلك الأعمال الكبيرة - اعتادوا أن يدرسوا من خلال «السلالات» تطور فكر توماس هاردي، خلال المرحلة الأخيرة من مراحل مساره الأدبي. هكذا، نجدهم يكشفون من خلال هذا العمل، ووفق تحليل الباحثين الذين تناولوا «السلالات» ضمن إطار موقعها من مسار هاردي، تلك النظرة الحتمية والقدرية التي كانت تشغل هاردي خلال مرحلة متأخرة من نشاطه دفعته إلى النظر إلى الإنسان بصفته نتاجاً لبيئته وضحية لها... لكنه كان يرى في الوقت نفسه أن الإنسان لا يتوقف عن النضال ضد قوة غاشمة لا تتوقف عن إلحاق الهزيمة به: إذاً، من خلال هذا العمل كان «يبدو واضحاً أن المؤلف إنما يحاول أن يبرهن على أن كل جهد إنساني لا يعدو أن يكون جزءاً من إرادة عليا غير واعية، تختبئ خلف الوقائع لكنها تسيطر عليها تماماً وبالتالي تسيطر على كل نشاطات الوجود الإنساني». غير أن هذه الفكرة الحاسمة لم تمنع هاردي، وفي «السلالات» تحديداً من أن يعبر «عن الأمل في أن تتمكن تلك الإرادة من أن تطور في صلبها نوعاً من الوعي يتمكن البشر بفضله من أن يصيغوا بأنفسهم مصيرهم الفردي»، وفق رأي الباحثين. وتوماس هاردي (1840 - 1928) كان يعتبر من كبار كتاب الرواية الإنكليز عند بدايات القرن العشرين تحديداً، بعد أن بنى لنفسه خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر سمعة كبيرة بفضل أعمال، راجت وكان لها قراء متحمسون. ومن بين تلك الأعمال، ما هو تاريخي وعاطفي ورواية مغامرات، ناهيك بالنصوص التي كانت في حقيقتها سيراً ذاتية مقنعة. ومن بين أبرز أعمال توماس هاردي: «جود الغامض» (1895) و «تسّ داربرفيل» (1891) و «الحطابون» (1887)، و «اثنان فوق البرج» (1882) ناهيك ب «السلالات» التي تعتبر من أنضج أعماله الكبيرة وآخرها. [email protected]