كنت قد أشرت في مقال سابق كيف أن الترفيه هو سيد الاقتصاد٬ ونقلت عن الرئيس التنفيذي لشركة تقنيات واستشارات استراتيجية أميركية الكاتب مايكل وولف ما فصله في كتابه «اقتصاد الترفيه»٬ مؤكًدا أهمية الترفيه على الاقتصاد والحالة الاجتماعية٬ واستعرض حجمه وتأثيره على النمو الوطني٬ وكيف يلعب هذا العامل٬ الذي أطلق عليه العامل «إي»؛ الحرف الأول من كلمة ترفيه باللغة الإنجليزية٬ دو ًرا كبي ًرا في ميول الناس واختياراتهم. ا عن بدايتها٬ اقتنص الترفيه حي ًزا كبي ًرا منها٬ لأهداف اجتماعية ونفسية واقتصادية. في في «رؤية السعودية 2030 «التي طافت العالم منذ أبريل (نيسان) الماضي إعلانً ا من مواطنين ومقيمين٬ يتوقون إلى الترويح عن أنفسهم والاستمتاع مع أسرهم٬ وتنمية هواياتهم في الفنون والرياضة وغيرها. هذا ما دفع بلد يصل عدد سكانه 30 مليونً المملكة لدعوة كبريات شركات الترفيه في العالم للاستثمار فيها٬ كشركة «6 فلاقز» الأميركية التي تمتلك أكبر مجموعة متنزهات في العالم٬ منها حدائق مائية ومدن ترفيهية للعائلات. ولإيمان القيادة السعودية بأهمية إيلاء قطاع الترفيه أهمية كبيرة٬ أنشأت في مايو (أيار) الماضي هيئة تُعنى بالترفيه وتقف على تخطيط وتنفيذ الكثير من البرامج والمشروعات٬ منها إنشاء المزيد من المتاحف والمكتبات والمعارض والفعاليات الفنية بأنواعها. هذا القطاع الذي بدأ تفعيله٬ إضافة إلى أنه حاجة ملحة للصحة النفسية٬ فهو يمثل دخلا مالًيا كبي ًرا في بلد شغوف بالترفيه٬ لا يفتر أهله عن البحث عنه في دول أخرى٬ مما جعل السعوديين يمثلون النسبة الأكبر من السّياح في بلدان كثيرة مثل الفلبين وسويسرا والنمسا ومصر وتركيا٬ إضافة لدول الخليج٬ وعلى رأسها الإمارات العربية والبحرين والكويت. من 60 إلى 70 مليار ريال هو حجم إنفاق السعوديين على السياحة في الخارج٬ معظمهم من العائلات٬ والمفارقة أن المواطن السعودي قد ينفق نحو عشرة آلاف ريال في رحلة سفر ليوم واحد لأجل حضور حفل غنائي في مدينة خليجية لمطرب سعودي! هذه المبالغ المالية التي ترحل للخارج دلالة على وجود خلل٬ وأن هذا الخلل داخلي٬ وأن السعودية البلد الشاسع في المساحة الذي يضم 75 في المائة من سكانه من الشباب يضطرون للسفر للبحث عما ينقصهم ويسد احتياجاتهم النفسية من التغيير والتنفيس. أن تتحول المملكة إلى بيئة جاذبة لسكانها أولا وللسياح القادمين من الخارج ثانًيا٬ يحتاج عملا دؤوًبا ورؤية مؤمنة بأهمية تفعيل مواردها تفعيلا أمثل٬ وهو ما تقوم به اليوم وزارة الثقافة والإعلام٬ وهيئة الترفيه٬ والهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني. تحتاج السعودية وهي في بدايات تأسيس هذا القطاع وتنفيذ رؤيتها الجديدة٬ إلى منشآت ومراكز ومنصات لإقامة الفعاليات من معارض ومسرحيات٬ ومراكز ترفيهية ومتنزهات متطورة٬ والمطمئن أن الحكومة بدأت فعلًيا في هذا الاتجاه لتغطية الاحتياج المتوقع خلال العشر سنوات القادمة. السعوديون بطبيعتهم وبحكم ثقافتهم وبيئتهم٬ يعشقون الفنون٬ ويستمتعون بها٬ ويتوقون إلى ملتقيات تشبع هذا الشغف٬ وهو ما شهدناه قبل أيام حيث ن ّظم مركز الملك فهد الثقافي بالرياض فعالية «نغمات ثقافية». والمركز الذي تبلغ سعته 3300 مقعد اكتظ بالناس٬ وشوهدت صفوف من الرجال والنساء على بوابة دخول المسرح٬ اضطر المركز لإعلان نفاد تذاكر الدخول في حسابه على موقع التواصل «تويتر» كي لا يتكدس الجمهور أمام البوابات وقد امتلأت المقاعد٬ واضطرت إدارة المركز كذلك لغلق البوابات الخارجية لمنع التدفق. فعالية «نغمات ثقافية» هي الحفل الغنائي الأول من 30 عا ًما٬ والحفل الغنائي الأول على الإطلاق الذي تحضره نساء٬ واللائي بلغ عددهن 1500 امرأة. كانت ليلة جميلة٬ من لم يستطع الحضور استمتع ببث الحفل على القناة الثقافية السعودية. وزارة الثقافة والإعلام ومركز الملك فهد الثقافي قدما للناس ليلة ماتعة٬ جرعة من البهجة٬ غمراهم بالسعادة. كما كّرمت فيها الرسامة العنود الجار الله التي تهوى الرسم الرقمي٬ والفنان التشكيلي عبد الرحمن السماري الذي رسم أمام الجمهور بورتريه للفنان السعودي الراحل طلال مداح٬ رحمه الله. تفاعل الجمهور مع هذا الفيض من الفنون بشكل لا يمكن وصفه٬ وتناقلوا مقاطع فيديو مصورة من الحفل على حساباتهم في «تويتر» و«فيسبوك». كانت هذه الليلة مقيا ًسا جلًيا على عطش الناس لفعاليات مماثلة٬ ورغبتهم في استدامة هذه الأنشطة. إدارة المركز الثقافي تنوي الإعلان عن فعالياتها للفترة القادمة٬ منها «يوم المرأة السعودية» الذي سيقام على مدى ثلاثة أيام٬ بدًءا من يوم الخميس القادم٬ يتضمن ندوات لنخبة من المثقفات السعوديات في نقاش حول تاريخ التعليم٬ ومستقبل الرياضة٬ وورش عمل٬ ومعارض فنون تشكيلية وتصوير فوتوغرافي٬ ومسرحيات٬ وحتى أوبريت نسائي تؤديه كريمتا الفنان الراحل عبد الله محمد؛ أريج وريم. السعودية أرض خصبة لبناء اقتصاد الترفيه٬ المساحة الواسعة تتطلب توفير مراكز ترفيهية وثقافية في مدن عدة٬ وتشجيع المواهب في الرسم والتأليف من الجنسين. مع هذا الإقبال من الجمهور٬ والإرادة الحكومية٬ يمكن للقطاع الخاص مع ما يقدمه القطاع الحكومي٬ توفير مصدر للسعادة٬ ومصدر للدخل٬ في آن واحد. نقلا عن الشرق الاوسط