مع الناس، مقولة قديمة تناقلتها الأدبيات البشرية منذ القدم، وحذرت منها بصيغ مختلفة، تملي تلك الصيغ الثقافة العامة للمجتمع الذي يريد من أبنائه أن يكونوا بناة قادرين وليسوا أتباعا عاجزين، ولعل أول ما جاء في ذلك محذرا الحديث المشهور لا تكن إمعة، وعندما سأل الناس عن المعنى؛ ما الإمعة؟ كان الجواب: الرجل الضعيف مع القوم أو مع الناس، يقول ما قالوا ويفعل ما فعلوا على غير رأي منه أو استقلال بشخصيته وموقفه، والإمعة في الماضي حاله بسيطة وذات هلامية تعيش في الظل وترتاح في التبعية والاختفاء في جمهور الناس وتذعن بالطاعة المطلقة لمن تكون معه أو تسير في ركابه، وهذه الشخصية الإمعة تتخلى عن أهم صفة لها في المكان الذي تحتله وتفوض وظيفتها الاجتماعية طوعا إلى غيرها لتكون صفرا غير عامل في المكان الذي تكون فيه، لا تضيف شيئا نافعا للمجتمع، وهي في تجارب الأمم وفي تاريخها حالة نادرة وغير مرغوبة ولا مرحب بها ولذا يهمشها المجتمع الفاعل ولا يعتد كثيرا بوجودها. والنهي عن أن تكون إمعة دعوة صريحة لتحقيق الوجود الذاتي وإبراز القدرات الفردية عند كل شخص في مجتمع البناء والعطاء والإنتاج الذي يعود بفوائد كثيرة أهمها تحقيق فردية الإنسان واستقلالها وإضافتها التي لا بد منها مهما كانت ومهما كان موقعها الذي تحققه في حياتها، وهو هدف نبيل دافعت عنه التربية السليمة منذ القدم وقد أدرك المصلحون ضرورة الفردية وانطلاق عقد الكبت والاضمحلال والتبعية، ودعت القوانين الاجتماعية والأديان إلى أن يكون الإنسان مستقل الإرادة وحر التفكير في تصرفه، طليقا في المحيط الذي يحتله، يأخذ كل فرد مكانه الطبيعي في الإطار العام، حيث لا يكون الناس صورة طبق الأصل ولا صورا مكررة ونمطية تافهة، ولا تكرارا لنموذج واحد لا يتحقق فيه التنوع الذي يثري الحياة ويمكن البشرية من عمران الأرض والسير فيها. تكون طاعة الإمعة لنفر قليل من الناس تجمعه بهم القرابة أو الجوار أو المعرفة الخاصة أو المصلحة والنفع ولو كان يسيرا، ولهذا يكون أمره سهلا وانقياده طيعا. والإمعة قد يكون فردا أو جملة أفراد أو مجتمعا كاملا يسلم عقله ورأيه لشخص يقوده حيث يريد ولو أورده الهاوية. هذا في القديم أما اليوم فليس الإمعة هو من يطيع ويتبع غيره بلا هدى ولا دليل، الإمعة اليوم قد يكون إنسانا تتوفر فيه كل ملامح الذكاء والقدرة والعقل ولكنه يتنازل عن ذلك، ويتخذ موقف الإمعة ليصل إلى غرض من أغراضه قد يكون المال - والحرص عليه الذي يقطع الأعناق - فينقاد لمن يملك المال ومن يداه مملوءتان به، ولأن المال جبان فقد يكون أقرب الطرق إليه هو الجبن في الرأي والهرب من تحمل المسؤولية والطاعة العمياء لمصدر المال ولو كان شبحا وليس شخصا. وقد يطلب الإمعة رضى الناس وحب السلامة مهما كلفه ذلك من هوان في نفسه وذوبان لشخصه ولو ثبت له أن رضى الناس غاية لا تدرك. أخطر إمعات اليوم، هناك الإمعات في السياسة والإدارة والمصالح العامة والأهداف العليا التي تقرر مستقبل الأمة. فالإنسان موقف ورأي وقول يدافع عن حق ويرد باطلا، وغير ذلك فهو لا شيء والحياة لا تصفو بأن يهون الإنسان وتمحى ذاته من أجل الآخرين وليس أخطر على ناموس الكفاح والدعوة إلى الإصلاح من هؤلاء الذين تغيب شخصياتهم في ظل غيرهم من أجل مصالحهم الخاصة، مهما كانت تلك المصالح. خطورة الإمعة ليس في اضمحلالها في شخص أو شخوص آخرين وتبعيتها لهم، خطورتها عندما تتخلى عن مكانها ودورها واستقلال إرادتها وتضيف كينونتها إلى شخص تتبعه وتعلن عبقريته. وإذا رأيت شخصية متضخمة في السياسة أو الإدارة أو في العلم والاقتصاد أو أي مجال آخر فاعلم أن هذه الشخصية قد ابتلعت جيوشا جرارة من قطيع الإمعات الذين ذابوا فيها وضخموها بالحجم الذي تراه، واختفوا في ظلها فلا ينطقون إلا باسمها ولا يسيرون إلا خلفها، وتلك هي المصيبة والداء الذي لا دواء له. [email protected] نقلا عن صحيفةمكة