لن ألجأ ابتداءً إلى التعبير المستهلك الشائع (الفن سلاح ذو حدين)، لأننا هنا سنتحدث عن الفن الحقيقي المسكون بالإبداع، الذي هو مظهر كوني من مظاهر الخلق الأول، وسر التكوين الأزلي. أما تلك المظاهر المتشنجة، والخارجة عن الإطار الفني بهذا المفهوم فلا يمكن أن تنسب إلى الفن الذي يحاول بعضنا إقحامه بلغة فجة تشريعية دينية إلى حيز الجهاد، لاكتساب موافقة ذهنية اجتماعية ضمنية تعطيه حق البقاء والديمومة، إلا أن هذا لا يعنيني البتة، ومع ذلك سأنحو إلى الاتجاه ذاته، ولكن بمعنى اصطلاحي مختلف عن الاصطلاح الفقهي، فالفن جهاد حين يصبح العقل بين كتل الظلام ملتبساً بتهمة الفكر المفضي عند شرائح متزمتة من المجتمع إلى الكفر، يصبح فن الكلام والتعبير عن حقيقة وجوده جهاداً عبر أبسط البنى الشكلية التي جاء بها ديننا الحنيف، كالابتسامة في وجه أخيك، واحترام الآخرين، والتورع عن مضايقتهم، أو جرح مشاعرهم، أو الانتقاص من قدرهم لاختلافهم عنك لغةً، ولوناً، وعرقاً، لنقل أن الإسلام بكل المفاهيم والمبادئ الإنسانية العالية التي قدمها واكتمل بها هو شكل من أشكال الفن وصورة من صور الإبداع، الذي حتى الآن نعجز بجدارة عن تمثيله على وجهه الحقيقي والأكمل. أما الفن بصوره، وأشكاله المعقدة، يستحدثها الإنسان لاستكمال التمظهر مع مكونات الخلق، يصبح الفن جهاداً عندما يؤول العقل إلى أشكال معرفية ملغمة بعبوات ناسفة لجدران الزيف. نعم، يكون هذا الفن جهاداً يحث على قطف المهج المترعة بالتطلع إلى مزيد من الجمال، ويحرض العقول العطشى إلى فلسفة ترش على خميرة الوعي من طللها ما ينبت فيها وعياً وحياةً مختلفة ليس للسكينة أو الاستسلام مكان فيها، فهو بهذا جهاد مختلف أكثر قابلية للتداول وأكثر انفتاحاً على الفرح، جهاد خارج دائرة التربص بالإنسان لأنه لا يشحن العواطف بوقود المقت والشنآن، ويغلق منافذ العقل للاستسلام إلى القيم الفتاكة المدمرة. في أوروبا، يوم كان الجهل رغيف الرهبان، وضمير الكنائس وترنيمة نواقيسها المقدسة، كانت العقول محفورة بالرعب لمجرد التماس مع هيبتها. ويوم انتهى الغرب من قبضة الرهبان، بدأنا نجتر شيئاً من هذه المعاناة بصور وأشكال مختلفة. فبعدما كنا حواضر للعلم، ومنارات للفن ردحاً من الدهر، نتلوا آية الحرية التي جاء بها ديننا الإسلامي المتضمنة بقوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين).. (وهديناه النجدين).. (ومن شاء منكم فليؤمن)، أمسينا نعلك ترهات الشعوذة والسحر وقراءة الفنجان، حتى تكاثر بيننا طاردوا الشياطين ومكافحو السحرة، نبحث عن كينونة الجمال بيننا ثم لا نجدنا إلا خواء يصفر في وجه العقل الملاحق بكل الموبقات، لمجرد أنه أراد أن يعبر عن كينونته بلحظة تأمل عميق لمعنى الحياة ورسالة الإنسان داخلها، أو التعبير عن جمالها بشفافية صوت مغموس بوتر عذب. ولأن حياة الإنسان بدأت تتلون، وصوته أصبح رقراقاً كالماء الزلال حق لها الوأد، والخوف كل الخوف لدى الممانعين للفن ولكل صوره وألوانه وأشكاله وأصواته، من أن تستشري في أوصال المجتمع حال طرب من نوع ما، فينهض راقصاً على إيقاع عذب يبدد أوهامهم، ويقلب الحياة من كونها مجرد مادة إلى روح وعقل خلاقين. الفن جهاد.. هكذا ببساطة نفهم الحياة المنفلتة من ربقة الإرهاب، لأنه المعبر الحقيقي نيابة عن كل لغات العالم، عن روح الحياة الماثلة في لغة الله الذي أبدع فيها كل شيء، فاقترابنا منه هو استلهام لمقوماته، وعمق فهمنا له يجسد كل الظواهر المنتجة في أشكال تعبيرية ومتنوعة. المسرح الذي يلتقط الحياة بشخوصها، وتفاعلاتها، وأصواتها من قارعة الطريق إلى خشبة المسرح، ليجسد امتداداتها وتشعباتها في ضخ فني هادر، وفي حيز زمني محدود ومحسوب هو منتهى الإبداع، والفن الذي يهز الأفئدة، ويحفر في الأرواح قيمه الحقيقية الملتصقة بمكون الإنسان الطبيعي، ويحرضه على الوقوف بحزم ضد أدنى تعد عليه، والصورة المشكلة في لوحة كرتونية صامتة تختزل هذا كله، وتستظهر قدرات الإنسان اللونية التي أحكم الله سبحانه خلقها في شبكة العين، كي تفرز المعاني الكامنة لما خلف الأشياء، وتبرمجها كرَّة أخرى في اتجاهاتها الحقيقية، وتستنطق الجمال داخلها بتعبئة كاملة لاستفزاز خيالات الإنسان وتصوراته بطرق إيجابية، تجعله يستظهر ما توارى خلف المواد الصماء، فرشقة ألوان ركبت بمهارة حاذق ستباغت العقول الخاملة بفجائية اللحظة، كما أن الوقت المنسرب في لحظات تأمل منجذب، هو بمعنى آخر استعادة ترميم للمسامع المدنفة من صوت القنابل، وهدير الأصوات المحرضة على الكراهية والفرقة والقتل، فهو في كل ما نرهف له أسماعنا الطربة من ترنيمة عود تتشقق له الأرواح كورود خامرها نسيم الصباح، فالصوت العذب من تنغيمة ناي، أو ترنيمة وتر، ترخي العقول قبل القلوب إلى تصالح روحاني مع الحياة، وتخلصها من لوثة الضجيج والصخب الذي وتّر مساراتها ودروبها، وصاغها في كتلة سوداء من الهم والكمد. الفن جهاد حقيقي عندما يسحب الناس من العدوانية الكامنة داخلهم للآخرين، فتقربهم من بعضهم البعض، وتصوغهم في تشكيلة «فسيفسائية» تتجاذب جماليتها، بتنوعها وتلونها، وهي في ديمومة أبدية لبناء الحياة. هذه التكاملية الفنية المبدعة الخلاقة تشي بأنه ليس أسهل من التدمير والقتل، يستطيع الإنسان الحصول على أدواتها من دون مشقة، ويقترف جرائمها من دون إمعان تفكير، بينما الفن يحتاج إلى مثابرة وجهاد في استنطاق مكنونات الكون التي أودعها الله - سبحانه وتعالى - تفاصيل الأشياء من حولنا، لذلك لن يستطيع فهم تركيب الألوان إلا من استطاع النظر عميقاً في تكوينات الطبيعة من حوله بالتأمل والاستيحاء حتى تغمره بها، والموسيقار الذي يتلاعب بالأوتار لن يقدر على رسم «نوتته» الموسيقية ما لم يقرأ مكونات الطبيعة الصوتية، ويرهف سمعه له بكل إنصات وتبتل، والممثل لن يقنعنا بكل أدواره ما لم يقرأ بعمق تكوينات النفس البشرية وتحولاتها، ويقوم بصياغتها بلغة الجسد والصوت المعبر. في هذا كله نكتشف الوجه الآخر للحياة الحقيقية، الأكثر جمالاً وروعة وديمومة، فلو فهمنا الفن على مقاييس الجمال الحقيقية لأدركنا كم هو أقرب إلى السلام، من كل القتلة الذين لا يتورعون عن سفك دماء الأبرياء على كل شاردة وواردة «بنتفة» نص شرعي لم تكتمل حججه وبراهينه، ولم يقرأ ويفسر بطرق متأملة ناضجة. كاتب وروائي سعودي نقلا عن الحياة