هل يمكن القول إن العصر الرقمي الذي نعيشه (سينتج) (جيلا) قادما بلا ذاكرة يعيش في مجتمعات بلا مرجعيّة؟ ولتبسيط المسألة دعونا نتأمل في ملايين الصور والمعلومات والرسائل التي تتبادلها أجيال اليوم وأين مصيرها. أين نجد سجلات ومراجع هذه المرحلة وهنا جيل كامل تتشكل هويته وراء الشاشات؟ كيف يمكن فهم واستيعاب من يعيشون منعطفات حياتهم العمريّة والعاطفيّة وسط الهواتف والحاسوب والكاميرات المدمجة وغيرها من الوسائط؟ ومثار الأسئلة اليوم أن وسائل الاتصال تطوّرت من مجرد "وسائط" إلى حضارة رقميّة تشكّل الأجهزة باختلاف أنواعها ومسمياتها فيها نقطة ارتكاز معظم دوائر النشاط الإنساني ومن خلالها يلتقي الناس ويتاجرون ويتعلمون ويحبون ويكرهون. والسؤال كيف سيرسم هذا الإرث العالمي الحضاري في صيغته الرقميّة (شخصيّة) وذاكرة الجيل الحالي الذي ينشأ اليوم وسط هذه الدوائر؟ يقول الباحثون إن "الشخصيّة" هي انصهار نفسي واجتماعي للكائن الإنساني يظهر في السلوك ويعبّر عنه مجموع العادات والاتجاهات والآراء التي يكونها الإنسان ويتصّرف بموجبها. وعلى هذا الأساس نرى أن المرجعيات الفكريّة التي تنشئ وتزن وتعدّل القيم المرجعيّة لأفراد أي مجتمع كانت عبر التاريخ البشري من إنتاج ذلك المجتمع ومن مكوناته المتوارثة. وعلى هذا البناء وبقوة الأثر التراكمي لمرجعيات المجتمع (المتفق عليها والمتوارثة) تتضح الشخصيّة الحضاريّة لكل فرد وبالتبعيّة شخصيّة المجتمع وما يميّزه عن غيره. ولكن ما هو حاصل في مجتمعات اليوم أن هذه المرجعيات (التقليديّة - المحليّة) لم تعد حاكمة على سلوك الناس (في مجتمعهم) جراء هيمنة منظومة قيم (عولميّة) مغرية التطبيق رهيبة الوسائل. هذه الهيمنة لم تأت نتيجة مؤامرة كونيّة مخططة ومدروسة كما يرتاح أكثرنا لهذا التبرير السهل، ما حدث ببساطة كان نتيجة متوقعة لحالة التدافع الحضاري الذي افرز سيادة شبه مطلقة للحضارة الأكثر إغراء وحيويّة في وسائلها ونظرتها للفرد والحياة. والسؤال هنا هل يمكن أن يأتي يوم تختفي أو تفسد فيه هذه الحضارة الرقميّة ويجد جيل ما نفسه في حالة "يتم" حضاري جراء انقطاع صلته التاريخيّة بذاكرته الحضاريّة ومنظومة مراجعه الثقافيّة التي يستمد منها عمقه الوجداني والروحي؟ وماذا تملك الشعوب (المغلوبة) من أدوات تقنيّة لحفظ وتوزيع واسترجاع ما بثّته على الفضاء الإلكتروني؟ يقول بعض المحلِّلين للواقع التقني أن عدد ما تخزنه خوادم الإنترنت حاليا يتجاوز عدد الكلمات التي نطق بها البشر طوال تاريخهم. وهكذا يوجد اليوم في ملكيّة الدول الكبرى أكثر من 14 تريليون صفحة الكترونيّة على الإنترنت يفهرس "قوقل" منها قرابة 50 بليون، وقريبا من 15 بليون صفحة يفهرسها Bing التابع لميكروسوفت. وبعبارة أكثر (تعقيدا) يبلغ تقدير حجم المعلومات المخزنة على الإنترنت أكثر من 1 يوتا-بايت YB (وحدة قياس سعة التخزين في الكمبيوتر) واليوتابيت يعني أن تضع أربعة وعشرين صفرا إلى يمين الواحد الصحيح! ويبقى سؤال: كيف نحفظ ذاكرتنا ونكنز موروثنا ومنظومة قيمنا بأدواتنا لأجيال ستحتاجها؟ تخيّلوا فقط حالنا وحال أجيالنا فيما لو حدث شيء (كارثي) لهذه الخوادم الإلكترونيّة (التي لا نتحكم فيها) سواء جراء خلل فني أو نتيجة قرار عسكري سياسي خارجي؟ نقلا عن الرياض