يؤكد كل من مؤسسة النقد والمصارف السعودية على عدم نظامية تلك الجهات التي تقدم خدمات التمويل والسداد لمديونيات الأفراد والمؤسسات الصغيرة، أولئك الذين تنتشر إعلاناتهم على أعمدة الكهرباء وقرب مكائن الصراف الآلي. لا شك أن هذه الأعمال ليست نظامية، ولكن ما سبب انتشارها؟ ألا تتحمل المؤسسة والمصارف أي مسؤولية في ذلك؟ لماذا كثرت هذه الخدمات ومن يتعاون معها؟ وما الحلول لسد الاختلالات التي أدت إلى تفاقم المشكلة بهذا الشكل؟ بداية علينا أن ندرك أن جهات التمويل وسداد المديونيات ليست إلا سوقا سوداء، كأي سوق سوداء تنشأ لسد احتياجات لم تستطع المؤسسات الرسمية سدادها، كما يحدث عندما تمتنع المؤسسات المالية الرسمية في بعض الدول عن تبديل العملات المحلية بأجنبية، أو عندما يكون هناك تباين في الأسعار الرسمية عن أسعار السوق. لذا نجد أن جهات التمويل وسداد المديونيات وغيرها من مؤسسات التمويل التي ستنضوي الآن تحت نظام مراقبة شركات التمويل، كشركات التقسيط وغيرها، جميعها تقوم بدور مهم في سد الفجوات التمويلية التي خلفتها المصارف الرسمية. غالباً المصارف تبحث عن العميل "المناسب" وفق ضوابط ودراسات إكتوارية وائتمانية تقصي شرائح عديدة من المجتمع ممن يلجأ إلى أساليب تمويل خارجية، كتقسيط السيارات والاقتراض من الأهل والأصدقاء. أما بالنسبة لملصقات سداد المديونيات فهي في الغالب تأتي بسبب جشع المصارف من جهة، وكنتيجة لغياب الدور الرقابي لمؤسسة النقد من جهة، وبسبب الفساد داخل المصارف من جهة أخرى. أساس المشكلة هو الهبوط المستمر لأسعار الفائدة في المملكة، حيث تراوح السعر الرسمي لاتفاقيات إعادة الشراء (التي تعتمد عليها أسعار الفائدة على القروض) ما بين 7 في المائة عام 2000 إلى 1.50 بداية هذا العام. لذا فإن هناك من اقترض بأسعار فائدة مرتفعة نسبياً ويرغب في سداد مديونية عالية الفائدة بأخرى منخفضة الفائدة، وهناك من يرغب في الحصول على قرض تكميلي للاستفادة من أسعار الفائدة المنخفضة وزيادة مبلغ القرض. غير أن هؤلاء العملاء وجدوا أن المصارف تمتنع عن إعادة التمويل بالأسعار المنخفضة، وتشترط سداد فوائد السنوات المقبلة قبل أن تمنحهم قروضا جديدة - يمكن للقارئ مراجعة مقال سابق هنا بعنوان: "هل يحق للمصارف إيقاف التسديد المبكر للقروض الشخصية؟". النتيجة الحتمية لذلك نشوء سوق سوداء لتسديد القروض القديمة واستخراج قروض جديدة من خلال أطراف خارجية تتولى هذه العملية، ويتم ذلك "بتعاون" أطراف داخل المصارف مع هذه الجهات. أحياناً يتم ذلك بمجرد قيام أصحاب الملصقات بتيسير عملية إعادة التمويل عن طريق المصارف والحصول على مبلغ مقطوع مقابل ذلك، أو إن لزم الأمر، يقومون بتسديد القرض القديم بسيولة لديهم لمدة يوم أو يومين، والحصول على قرض جديد بأسعار لا يستطيع العميل الحصول عليها بنفسه، مرة أخرى بتعاون من المصارف ذاتها. دول كثيرة أوجدت حلولا متنوعة لمشكلة تمويل الأفراد، سواء من خلال تعديل شروط المصارف للحصول على القروض أو بإنشاء اتحادات ائتمانية أو بإنشاء مصارف تعاونية أو بأساليب التمويل المصغر. يوجد في العالم حالياً نحو 60 ألف اتحاد ائتماني، في 103 دول، وأكثر من 200 مليون عميل. فكرة هذه الاتحادات الائتمانية أنها مملوكة من قبل عملائها، وهي شبيهة بفكرة الجمعيات التعاونية التي تنشط في مجال مبيعات الأغذية في كثير من الدول. يشرف على هذه الاتحادات مجلس عالمي مقره الولاياتالمتحدة، من أهدافه مساعدة الناس على التوفير والاقتراض وتقديم النصائح والاستشارات المستقلة للعملاء. هناك كذلك المصارف التعاونية التي تشبه الاتحادات الائتمانية غير أنها تستقبل ودائع من غير الأعضاء وتمارس أعمالا مصرفية متقدمة. اللجوء لوسائل تمويل غير نظامية يتم لسبب واحد في نهاية الأمر: عدم قدرة الأفراد والمؤسسات الصغيرة على الحصول على ما يحتاجون إليه من تمويل عن طريق المؤسسات المالية الرسمية. بالطبع هناك مؤسسات خيرية تقوم بمساعدة المحتاجين بمبالغ قليلة، غير أنها ليست موجهة لشرائح عديدة من المجتمع لم تجد وسيلة عملية عدا اللجوء لتجار الملصقات ومؤسسات تقسيط السيارات. أحد الحلول الحديثة لمشكلة التمويل، الممكن تطبيقها في المملكة، يتم من خلال آلية التمويل المصغر عن طريق الإنترنت، وهي امتداد لفكرة التمويل المصغر التي دفع بشهرتها عالمياً محمد يونس، الحائز جائزة نوبل للسلام عام 2006. هناك عدد من الجهات يقوم بتمويل الأفراد والمنشآت الصغيرة حول العالم بالاستفادة من ميزة الإنترنت في التواصل مع أكبر عدد من الممولين والاستفادة من تقنيات الدفع الإلكتروني. كمثال على واحدة من هذه الجهات، هناك مؤسسة كيفا، الكلمة التي تعني باللغة السواحيلية تعاضد، التي قدمت حتى العام الماضي قروضاً بنحو 500 مليار دولار، قام بتمويلها أكثر من مليون ممول حول العالم، وبنسبة سداد تجاوزت 99 في المائة. تتعامل مؤسسة كيفا مع عدد كبير من الشركاء الميدانيين، وهم عبارة عن منظمات خيرية ومؤسسات تمويل مصغرة يبلغ عددهم نحو 227 شريكا في 73 دولة، منهم شركاء في بعض الدول العربية كالأردن ولبنان واليمن وفلسطين. يتمثل دور الشريك الميداني في البحث عن المقترض الذي تنطبق عليه شروط التمويل من حيث طبيعة عمله ومدى حاجته إلى التمويل وقدرته على السداد. أما الممولون فهم أناس عاديون لديهم الرغبة في مساعدة الآخرين بطريقة مهنية، لا كصدقة أو هبة، بل كقرض تجاري دون فائدة مالية، فيقومون باستخدام وسيلة الدفع الإلكتروني ''باي بال'' للمشاركة بمبالغ تراوح ما بين 25 دولاراً و50 ألف دولار. صلب الفكرة أن يتم إيجاد وسيلة لجموع الناس ليقوموا بتمويل من يحتاج إلى تمويل والاستفادة من اتساع رقعة الإنترنت وقبول أي مبلغ حتى وإن كان فقط 25 دولارا "كاستثمار" في هذه المنظمة. معظم المستفيدين من التمويل أفراد من دول مثل البيرو وكينيا وأذربيجان وكولومبيا وفلسطين والأردن ممن يحتاج إلى بعض المال لشراء حراثة صغيرة لمزرعته، أو جهاز آلي يعينه في مصنعه الشخصي أو امرأة بحاجة إلى بعض المال للتوسع في نشاط منزلي تمارسه. من الممكن تطبيق هذه الفكرة في المملكة، وربما تنجح الفكرة بشكل أكبر مما حصل في دول أخرى، خصوصاً أن لدينا أفرادا ومؤسسات لديهم القدرة والرغبة في المشاركة في التمويل بدون فوائد مالية، بل فقط للمحافظة على رأس المال، وكذلك لكون العملية ليست هبة أو صدقة أو زكاة، بل وسيلة حديثة للتمويل تسد الفجوات التمويلية التي أحدثتها المصارف الرسمية. تجار ملصقات سداد المديونيات لم يأتوا من عبث، بل إنهم يقومون بدور اقتصادي ومالي مهم من أجل مساعدة الناس في التغلب على العثرات التمويلية التي تلقيها المصارف في طريقهم نقلا عن الاقتصادية