بعد أن اختارت مصر رئيسها، لا بد لها أن تواجه أزماتها الخمس الكبرى طويلة المدى، التي يجب أن تتعامل معها مصر كلها، وتكون الإطار الجامع للمشاكل الكثيرة الفرعية، وإلا غرقت مصر في القضايا التكتيكية على حساب الاستراتيجيات، والتي معها تبقى مصر في حالة اضطراب دائم. الأزمات الخمس الكبرى الجامعة التي أراها أهم تحديات مصر، هي أزمة هوية في مجتمع قديم يقترب من حالة التفسخ، وأزمة الشرعية التي تكون الانتخابات جزءا منها لا كلها، وأزمة الجغرافيا، ثم أزمة المشاركة، وأزمة فشل مؤسسات التوزيع؛ أزمات في حلها استجابة أو ترجمة لمطالب الثورة، المتمثلة في العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. كيف يستقيم للعقل أننا نعاني أزمة هوية؟! نحن لا نعاني فقط أزمة هوية، وإنما نعاني أيضا أزمات أخرى. الدولة المصرية الحالية تعاني ست أزمات لا بد من مواجهتها، إذا كانت لدينا النية والإرادة بأن ننتقل بمصر من مراهقة الثورة إلى رشد الدولة. أولاها إعادة بناء الشخصية المصرية، ليس من منظور تفوق عرقي أو تاريخي أو ثقافي، وإنما إعادة بناء الشخصية المصرية حول منظومة حديثة من القيم التي تصبح مع الوقت هي العلامة التجارية، أو «براند» لكل ما هو مصري، كالشخصية الإنجليزية مثلا، أو الأميركية، حين يقال إن هذا السلوك غير إنجليزي أو غير أميركي، أي يتنافى مع القيم الأميركية أو الإنجليزية المتفق عليها. إعادة بناء الشخصية المصرية لتتمحور حول منظومة من القيم هي التحدي الأول للنظام الجديد الذي نريده في مصر ما بعد الثورة. الأزمة الثانية التي نعانيها، والتي يجب الالتفات لها سريعا من أي نظام جديد، هي أزمة جغرافية في المقام الأول. فمنذ فترة ليست ببعيدة قررنا طواعية أن نختزل هذا الوطن الكبير في مدينة واحدة، وهي القاهرة، لم يحاصرنا عدو خارجي، ويفرض علينا أن نصبح دولة مدينة واحدة، بل فعلنا ذلك بأنفسنا. أصبحت الدولة المصرية، وخصوصا خلال الأعوام الثلاثين الفائتة، هي دولة القاهرة فقط، محاطة بها مجموعة من المنتجعات الصيفية والشتوية التي يذهب إليها أهل القاهرة في رحلات الشتاء والصيف في أسوان وشرم الشيخ والساحل الشمالي، شيء أشبه بفكرة الباشا القديم، الذي يذهب للعزبة في الأرياف للنزهة، ثم يعود إلى القاهرة، كما في أفلام الأبيض والأسود. تحويل الوطن إلى مدينة واحدة جريمة في حق الوطن، فليس من المعقول أن كل رسائلنا الإعلامية والسياسية تتمحور حول القاهرة، ونطالب الناس بأن تساعدنا فيما يحدث في سيناء، أو نبني تحالفا يدافع عن مثلث حلايب وشلاتين! إذا كانت الشمس هي القاهرة والباقي أقمارا صغيرة أو مقاطعات تدور في فلكها، فهذه ليست صيغة وطن، بل صيغة عاصمة تهيمن على أقاليم مع الوقت قد تنفصل عنها أو تقل الروابط فيما بينها، ونصل إلى الصيغة التي وصل إليها اليمن الآن كسيناريو أسوأ. هذه الأزمة المكانية يجب أن تكون أولوية في بناء الدولة الجديدة. لا يكفي أن نقول إن أي مرشح رئاسي سيعلن عن ترشحه من الصعيد أو من الدلتا أو سيناء أو الواحات، الأساس هو برنامج العمل الذي يدمج هذه المقاطعات في صيغة وطن تتساوى فيه المدن، وليس مجرد مقاطعات تابعة (للوالي العثماني في القاهرة). الأزمة الثالثة هي أزمة شرعية، وهنا لا أقصد شرعية جماعة مرسي أو شرعية انتخابات، بل صيغة التراضي بين الحاكم والمحكوم، من خلال مؤسسات وسيطة محل ثقة. دعني أفسر هذه النقطة قليلا؛ نشتري كل يوم كتبا أو تذكرة طائرة من خلال بطاقة الائتمان (الكريدت كارد)، والسؤال هنا: ما الذي يجعل مكتب الطيران أو الشركة الأجنبية التي تبيع الكتب أو السيارات أو أي بضاعة أخرى، تثق في هذه البطاقة التي هي مجرد قطعة بلاستيك؟ الشركات تثق في قطعة البلاستيك لأن البنك الذي أصدرها كفيل بالدفع وضامن لها. البنك كمؤسسة وسيطة يجعل لقطعة البلاستيك قيمة، فكيف نصنع مؤسسات بديلة تضمن للرجل الذي في القرية أن صوته ورأيه في الحكم يصل للحاكم في القاهرة، وأن الخدمات التي يعد بها هذا الحاكم مضمونة الوصول إلى مستحقيها؟! بناء مؤسسات الثقة الوسيطة التي تحظى بثقة الحاكم والمحكوم في تجسير العلاقة هي الأساس في بناء الدولة الجديدة. الأزمة الرابعة، هي مؤسسات التوزيع التي توصل المستحقات الوطنية إلى المواطنين، وهي ليست مشكلة فقر أو غنى، وإنما مؤسسات توصيل للمستحقات، وتعاني هذه المشكلةَ الدولُ الغنية والفقيرة على حد سواء، فقد تكون لديك الأموال، وليس لديك المؤسسات التي توصل هذه الأموال إلى مستحقيها، ليس لأنك كحاكم أو كدولة لا ترغب، ولكن لأن مؤسسات التوزيع ضعيفة. الأزمة الخامسة التي نعانيها، وهي قريبة من أزمة دولة المدينة المتمثلة في سيطرة القاهرة، هي أزمة التغلغل، أي أن تكون الدولة متغلغلة في كل أراضيها المعترف بها دوليا. لدينا حوار أبله حول مفهوم «الدولة العميقة» المنقول من النموذج التركي، الذي يعبر عن تغلغل الجيش والمخابرات في أجهزة الدولة، وهذا حديث طويل.. ولكنها ليست أزمتنا، فبالعكس، نحن لدينا أزمة نقص في العمق، حيث هناك أناس في الأطراف في سيناء والصعيد ليست لديهم بطاقات هوية، وأذكر أنني رأيت هذا بعيني في الصعيد خلال السنوات الأربعين الفائتة، حيث كان الفرد يدخل الجيش أحيانا نيابة عن أخيه، إذا كانت الأسرة مسجلة، وقد لا يدخل، لأن أسرا بكاملها غير مسجلة، الناس دخلت عالم تسجيل الأسماء في فترات القحط من أجل صرف التموين من زيت وسكر في الفترة الناصرية. في سيناء والواحات ما زال عدم التسجيل قائما. فما بالك بحلايب وشلاتين والبشارية في إدفو وأسوان وغيرها. الدولة عندنا ليست عميقة أفقيا، كما يتصور البعض، ونحتاج في الدولة الجديدة أن يكون كل المواطنين شركاء. أزمة أخيرة، هي أزمة المشاركة، وهنا لا أقصد المشاركة السياسية بمعنى صندوق الانتخاب، بل أقصد الإحساس بالشراكة الوطنية في بناء وطن جديد، من خلال مشاريع وطنية يحس معها الفرد أنه لا يبني لوطنه فقط، إنما يبني لنفسه. هذه تحديات تفرض على المصريين، وعلى الرئيس الجديد، منهجا جديدا يتطلب مزيدا من الإبداع لبناء وطن جديد قابل للاستمرار، وكذلك مواطن جديد، والانتقال من انتهازية ومراهقة سياق الثورات إلى رشد ونضج الدول. نقلا عن الشرق الاوسط