تعد المؤسسة العامة للتقاعد "التقاعد"، والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية "التأمينات"، من أبرز اللاعبين وأكبرهم وأكثرهم تأثيرا في السوق المحلي، ولعل هاتين المؤسستين تعدان أكبر هدف لأي استثمار كبير تقوم به الدولة أو مؤسسات القطاع الخاص، خاصة المشاريع العملاقة منها. عند الحديث عن الاستثمار في أي دولة من الدول المتقدمة حضاريا واقتصاديا، تحضر استثمارات الصناديق الحكومية، وغالبا ما يكون أولها صندوق التقاعدPension Fund، فهو هدف للمستثمرين لما يملكه من أصول هائلة وسيولة عالية، ومخاطر هذه الصناديق أن أموالها لا تملكها هي، وإنما هي وديعة لديها لمصلحة المتقاعدين حاليا ومستقبلا .. لذلك يجب أن تكون هذه الأموال مستثمرة بشكل مهني دقيق يوازن بين المخاطر والعوائد، وبين السيولة والاحتياجات النقدية، وبين التوزيع والتركيز الجغرافي، وبين الاستثمار المباشر وعن طريق الغير. ومن المهم أن تكون هناك استراتيجية تفصيلية تراعي ذلك وصواً إلى تحقيق توزيع متناغم للأصول. في المملكة صناديق التقاعد تشمل استثمارات التقاعد والتأمينات، التي تعنى أولاهما باستثمار أموال متقاعدي الحكومية، والثانية باستثمارات متقاعدي القطاعات الأهلية، معظم استثمارات التقاعد بشقيها تستثمر خارجيا في ودائع وسندات حكومية عن طريق مؤسسة النقد بعوائد منخفضة لا تكاد تذكر، أما الاستثمارات الداخلية فمقسومة بين أسهم في الشركات المدرجة واستثمارات عقارية متنوعة، وقد توجد استثمارات أخرى مثل الاستثمار في القطاع الصحي بالنسبة للتأمينات قبل تحويل استثمارهم إلى شركة "رعاية" التي أدرجت في السوق أخيرا. إن توجيه هذه الاستثمارات نحو القيمة المضافة لتحقيق الأرباح الاستثمارية مع القيمة المجتمعية سيوجد تعظيما كبيرا لدور هذه الاستثمارات في توجيه دفة الاقتصاد المجتمعي داخليا، والاستثمار الذكي خارجيا. ما المقصود بالقيمة المجتمعية للاستثمارات؟ المقصود الجمع بين الاستثمار المحقق لعوائد تتماشى مع سياسة توزيع الأصول الاستثمارية، وتساهم في إضافات ذات قيمة للمجتمع؛ مثلا استثمارات في الإسكان تحقق العوائد وتحقق قيمة مجتمعية عالية بتوفير السكن للمواطنين، كذلك الاستثمارات في أسواق للأسر المنتجة تحقق العوائد، إضافة إلى القيمة المجتمعية بتوفير المكان والبيئة المناسبة لعرض وتسويق منتجات بيوت تبتغي الستر، وتصعد أولى درجات العمل الخاص، والاستثمار في الصحة كذلك مثل ما قامت به "التأمينات" في استثمارها في "رعاية"، والاستثمار في مصارف للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، أو لإقراض المشاريع متناهية الصغر من الاستثمارات ذات القيمة المجتمعية العالية، إذ إنها عالية الربحية كعوائد وتسهم في تأمين مصادر لتمويل فئات من قطاعات الأعمال التي يصعب عليها التمويل أصلا، كما أن الاستثمار في مجال التعليم ممكن بشكل كبير، خاصة في إيجاد المباني التعليمية المميزة للمدارس الخاصة، التي تحقق عوائد ممتازة، إضافة إلى إسهامها في تحسين البيئة التعليمية الأهلية بشكل عام، وعلى صعيد الاستثمارات الخارجية فإن استثمارات في الشركات العالمية البعيدة عن مجال النفط، والمتعلقة بمحاور أساسية مهمة للمملكة سيكون لها دور كبير في نقل التقنية من جهة، وكذلك التأثير في القطاع وتقليل المخاطر من جهة أخرى، وأقرب النماذج لذلك هو الشركات العالمية المتخصصة في معالجة المياه، وشركات الغذاء العالمية، وشركات الاتصالات والتقنية، وإن كنت أدعو إلى الاعتماد على القرار الاقتصادي بالدرجة الأولى، إلا أن المساهمة في هذه الشركات سيكون لها أثر كبير في الدور العالمي للمملكة اقتصاديا وسياسيا، كما أن لها إسهامات مجتمعية استراتيجية على المدى البعيد لا يستهان بها. الشفافية في استثمارات التقاعد والتأمينات مطلوبة، وهذا لا يكاد يذكر إلا من خلال ما تصرح به هاتان المؤسستان لوسائل الإعلام أو للسوق، أو من خلال ما يجب الإفصاح عنه من خلال هيئة سوق المال، والشفافية بإعلان تفاصيل الاستثمارات ونتائجها في رأيي هي أكثر وسائل الرقابة والنزاهة فاعلية. مطلب ملح آخر وهو الاستعانة بهيئة استشارية وخبراء استثمار لإدارة وتوجيه هذه الاستثمارات، وقد قامت كلا المؤسستين أخيرا بخطوة ذكية على الطريق الصحيح بتأسيس شركات استثمارية تملكها بالكامل، وتقوم المؤسستان بالاستقطاب للكفاءات التي تمكنها من إدارة الاستثمارات بفاعلية. هذه الشركات يفترض أنها تنفذ الاستراتيجية المعتمدة لاستثمارات كل مؤسسة. المشكلة في الأمر أن هاتين المؤسستين قد يتسبب تنافسهما في إفساد السوق أو القطاع، وأكبر مثال على ذلك هو الاستثمارات العقارية الضخمة لكلا المؤسستين وتركزها في المدن الرئيسية خاصة الرياض وأبرزها "المركز المالي"، كما أن قلة الفرص المتاحة محليا من جهة، وعمل المؤسستين من خلال ردود فعل السوق أكثر من المبادرات الذاتية بتبني مشاريعها يجعل استثمارات المؤسستين تدوران في الفلك نفسه بقدون أي تجانس بينهما، بل على العكس تماما قد يؤثر هذا التنافس في الاستثمارات وتغيير وجهتها بدلا من التكامل المفيد لهما وللبلد إلى التنافس الضار بهما وبالبلد. السؤال الذي يدور في ذهني، مع عدم الإخلال بقواعد المنافسة العادلة والاحتكار، هو: هل حان الوقت لدمج استثمارات المؤسستين معا؟ أو هل يمكن البدء بتأسيس صندوق مشترك تدمج فيه استثمارات "التقاعد" و"التأمينات"، أو على الأقل تأسيس لجنة أو مجلس مشترك تكون مهمته تجانس استثمارات أكبر مؤسستي استثمارات محلية وتعظيم عوائدهما الاقتصادية والمجتمعية، وهذا في نظري أضعف الإيمان نقلا عن الاقتصادية