لا شك أن تركيا تعيش اليوم أكثر مراحل كيانها حرجاً وأشدها تحدياً نتيجة توسط موقعها الجغرافي بين الشرق والغرب، مما أدى إلى تضارب مصالحها القومية والسياسية والاقتصادية. فمعارضو العلمانية في البرلمان التركي ما زالوا يُصِّرون على ممارسة مبادئها جهاراً نهاراً لكسب ود دول الاتحاد الأوروبي، ومناصرو العولمة في الشارع التركي ما زالوا يختالون عنوةً وقسراً في ميادينها لفتح أسواق دول الشرق الأوسط أمام الصادرات التركية. ولا شك أن تركيا تعلم جيداً بأن مفهوم العولمة لا ينحصر فقط في تحرير التجارة الدولية وتدفق الاستثمارات الأجنبية وشيوع الثورة المعرفية، بل يؤدي أيضاً إلى تكامل الاقتصاديات المتقدمة والنامية في سوق عالمية واحدة مفتوحة وخاضعة لمبدأ التنافس الحر، طبقاً لما جاء في اتفاقية إنشاء مؤسسات "بريتون وودز" منتصف عام 1944. لذا أخذت تركيا على عاتقها المضي قدماً في مسيرة العولمة بانضمامها لمؤسساتها منذ إنشائها، وتطوير أسواقها وقطاعاتها لجذب الاستثمارات العربية والأجنبية المباشرة ويؤهلها لعضوية منظومة الاتحاد الأوروبي. أما مفهوم العلمانية فلا شك أن تركيا تعلم جيداً بأنه لا ينحصر فقط في إلغاء الخلافة السياسية وإحلال القانون المدني محل الشريعة وتجريم جميع أشكال تعدد الزوجات وإلغاء الزواج الديني ومنح حقوق متساوية للجنسين في مسائل الإرث والزواج والطلاق، بل يؤدي أيضاً إلى فرض الحظر على استخدام الدين للأغراض السياسية وإلغاء المحاكم الدينية ومؤسسات التعليم الديني. لذا أخذت تركيا على عاتقها المضي قدماً في مسيرة العلمانية واستمالة دول الاتحاد الأوروبي لصالحها من خلال تعديل دستورها التركي عام 1928 الذي أزال فقرة "دين الدولة هو الإسلام"، علماً بأن 99% من مواطني تركيا يعتنقون الإسلام. بعد 3 سنوات من تعليق المفاوضات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، اجتمع الطرفان يوم الثلاثاء الماضي في بروكسل لخوض جولة جديدة من المفاوضات وسط تأكيد رغبتهما في الإسراع بمناقشة الطلب التركي الذي قدم قبل 26 عاما. إلا أن مخاوف أوروبا من تحويل القضايا الإسلامية في تركيا إلى قضايا أوروبية ما زال يخيم على مسيرة المفاوضات، حيث إن انضمام تركيا للاتحاد يجعلها ثاني أكبر عضو فيه بعدد السكان بعد ألمانيا، مما يمنح تركيا أكبر عدد من الممثلين داخل البرلمان الأوروبي ويجعلها من الأعضاء الفاعلين فيه. من بين 34 فصلاً من فصول الاتفاق بين أوروبا وتركيا، تم حتى تاريخ اليوم التفاوض حول 14 فصلاً واختتمت المفاوضات بالاتفاق على فصل واحد فقط، وسط معارضة تركيا للتفاوض حول الفصلين 23 و24 المتعلقين بالحقوق الأساسية والقضاء والحرية والأمن. كما رفضت تركيا تقرير المتابعة الذي جاء فيه تنديد أوروبا بالاستخدام المفرط للقوة من قبل الشرطة خلال المظاهرات التي اندلعت في إسطنبول منتصف العام الجاري. وعلى المستوى الاقتصادي تخشى دول الاتحاد الأوروبي من أن انضمام تركيا للاتحاد سوف يدفع بعدد كبير من العمالة التركية الرخيصة للهجرة إلى ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، للبحث عن فرص عمل في هذه الدول، مما قد يزيد من معدلات البطالة. كما تخشى دول الاتحاد من أن انتشار السلع التركية الرخيصة في أسواقها سوف يؤدي إلى تدني أسعار الصناعة الأوروبية فضلا عن تأثيرها السلبي على مستوى جودة المنتجات. إلا أن الاتحاد الأوروبي يعتبر تركيا أكبر شريك تجاري واستثماري، حيث ما زالت تركيا تحتل المرتبة الأولى بين الدول الأوروبية في النمو الاقتصادي وسادس أكبر اقتصاد في أوروبا، وذلك على الرغم من الآثار السلبية للأزمة المالية التي يشهدها العالم. فمنذ عام 1995 سجل حجم التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي وتركيا ارتفاعاً بلغ أكثر من ثلاثة أضعاف لتتجاوز قيمته في العام الجاري 100 مليار يورو. واليوم يشكل حجم التبادل التجاري 37% من إجمالي حجم التجارة الأوروبية التركية الإجمالية، كما تشكل الاستثمارات الأوروبية في تركيا نسبة 70% من إجمالي تدفق الاستثمارات الدولية في السوق التركي. لذا سيساهم انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بتوسعة السوق الداخلية الأوروبية وتعزيز القدرة التنافسية النسبية لأوروبا في الاقتصاد العالمي. تزامنت المفاوضات التركية الأوروبية مع انطلاق أكبر تظاهرة اقتصادية عريية تركية تشهدها المنطقة، من خلال الاجتماع التركي العربي الأول لوزراء الاقتصاد والتجارة والاستثمار، في مدينة "مرسين" جنوبتركيا وبمشاركة 18 دولة عربية. وشددت الكلمة الافتتاحية التركية على ضرورة وأهمية تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي العربي والتركي، من أجل السلام والأخوة والرفاه. في العام الماضي وصل إجمالي الدخل المحلي للدول العربية حوالي 3 تريليونات دولار، فيما يبلغ حجم تجارتها الخارجية 2 تريليون دولار، لتصبح هذه الدول من أهم المناطق الاقتصادية في العالم. وبينما تضاعف حجم التبادل التجاري بين تركيا والدول العربية 11 مرة خلال العقد الماضي، ليصل خلال العام الجاري إلى 55 مليار دولار، والتي من المتوقع أن ترتفع إلى 100 مليار دولار خلال السنوات الخمسة القادمة، فاقت التدفقات الاستثمارية المباشرة من الدول العربية إلى تركيا 750 مليون دولار، مما يؤهل إنشاء منطقة التجارة الحرة بين الدول العربية وتركيا. التحدي الذي يواجه تركيا اليوم يكمن في حسن اختيارها لمصالحها العليا، فبإمكان الجانب التركي إبرام اتفاقية التجارة الحرة مع العالم العربي خلال أيام معدودة والدخول في ميدان العولمة من أوسع أبوابه، بدلاً من مواصلة التسول على أبواب الاتحاد الأوروبي لمدة ثلاثة عقود لدخول قصر العلمانية نقلا عن الوطن السعودية