ما غرد أحد قط بحب وطن لا حياة فيه .. وقد كان الوطن متحركاً .. على صهوة جواد أو ظهر بعير وراء الماء والكلأ .. صرح بذلك جدنا عنترة بن شداد: (نزلنا هاهنا ثم ارتحلنا .. كذا الدنيا نزول وارتحال)، كما امتلأ شعرنا القديم بالبكاء على الأطلال، لا حباً للديار وإنما حباً لمن كان فيها .. كقول امرئ القيس: (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) أو قول طرفة بن العبد: "(لخولة أطلال ببرقة ثهمد) إلى قول قيس بن الملوَّح: (أمر على الديار ديار ليلى .. أقبل ذا الجدار وذا الجدارا)، وبعدهم بقرون، جاء ابن الرومي ليقول: (وحبّب أوطانَ الرجالِ إليهمُ .. مآربُ قضّاها الشبابُ هنالكا)، فأضاف إلى الماء والكلأ والأحبة رابطة جديدة هي (المآرب) أي المعطيات الحضرية الجديدة للوطن .. وإن كان قد خص الرجال بحب الأوطان وطرد النساء من جنة هذا الحب بحكم ثقافة ذكورية مفهومة آنذاك. كان ذلك قبل أن تستقر للوطن هويته السيادية مع نشوء مفهوم الدولة الحديثة .. ويأخذ حب الوطن صفة جديدة أصبحت تعرف ب "الوطنية" حينئذ جاء شوقي، في مطلع القرن الماضي ليقول: (وطني لو شغلت بالخلد عنه .. نازعتني إليه في الخلد نفسي) وقريباً منه - وربما متأثراً به - قال الشاعر التشيلي بابلو نبرود: (عندما دخل الشاعر الجنة، صرخ: آه .. يا وطني!)، أما رائد الحداثة الشعرية بدر شاكر السياب فقد تساءل بضراوة: (إني لأعجب إذ يخون الخائنون أيخون إنسان بلاده؟! إن خان .. معنى أن يكون .. فكيف يمكن أن يكون؟!) لكن فضاءات الشعر، مع ذلك، لا تقوى على التعليل والتحليل، إنما تكتفي بشحنات الانفعال تختزلها في الصور البلاغية، لأن "الوطنية" تعبير مكثف عن ذلك المزيج الاستثنائي للروحي والمادي أو "مدرحية" تجمع الأرض المحددة بما عليها وما فيها من مقدس وثروات سلطتها بالمواطنين كمعادل موضوعي لها .. فكلاهما معاً الوطن ومواطنوه قلب وقالب الوطنية في وحدة عضوية لا فصام فيها بين الشكل والمضمون وحين تتم محاولة تشويه هذه العلاقة باستغلال الشكل على المضمون أو هذا على ذاك، ينعكس ذلك تلقائيا تشويها في محبة الوطن "الوطنية"، فالوطنية ليست نزعة ميتافيزيقية محلقة وإنما حقيقية ديناميكية تبادلية على واقع محسوس تعطي وتأخذ .. ولست مع تطرف قول الرئيس الأمريكي الراحل جون كيندي الذي كثيرا ما يستشهد به: "لا تسأل نفسك ماذا أعطى لك الوطن؟ وإنما اسألها ماذا قدمت له؟!". فكنيدي .. هنا .. شاعر، إن أحسنا الظن وإلا فهو في الواقع قول سياسي يستهدف تحشيد الحماس لغاية انتخابية، علما بأن وطنه (أمريكا) أغدق عليه الكثير، بل منحه سدة الرئاسة، لكن أيضا اغتيل من أجله! واقع حال كل مواطن في العالم اليوم، ومنذ استقرت الدول .. محكوم باستحقاقات الوطن له وعليه .. ولذا يهاجر الملايين من الناس حين تناصبهم بلدانهم العداء في فقرها البيئي أو في نظمها السياسية أو ينفرط الأمن وقد يهرب البعض مجازفين بأرواحهم في خوض غمار أهوال البحار أو مخاطر عبور الحدود، يصبحون مواطنين، حيث استقروا ولا يبقى الوطن سوى ذكرى .. أشبه بالذكرى السياحية التي تعلق في الأذهان وتثير الأشجان سلبا أو إيجابا حين تخطر على البال لوهلة ثم تخبو. الوطنية إذا لا تكون سوية إلا حين توجه الاستحقاقات من المواطن إلى الوطن ومن هذا لذاك بموفور الكرامة والثقة بين مؤسساته وأفراده ومنظومته القانونية، فليس مواطنا هذا الذي يرى وطنه سحارة سحرية ينبغي أن تتيح له فقط إرضاء أنانيته وجشعه ونزواته، كما أنه ليس وطنا ذاك الذي يضطر مواطنه للبس الأقنعة والتلون كالحرباء حسب الحاجة بالتملق أو الانحدار لاستجداء ما هو شأن عام وحق معلوم يفترض ألا يمارس عليه أحد المنة في أدائه له. من هنا .. ليت أساتذتنا ومعلمينا في المدارس والجامعات وليت إعلاميينا ومثقفينا يكرسون خطاب التربية الوطنية وفق هذا المنحى وهذا المنظور .. لتتبدد من الأذهان تلك النفعية الذاتية الانتهازية .. التي شعارها (أنا ومن بعدي الطوفان) .. فلا الحفاظ على منجزات التنمية وصيانتها ولا حماس الإضافة إليها يعنيه، كما لا يتم تقديم الوطن في فضاء بلاغة الإنشاء والصورة الرومانسية .. إنما بمكونه الروحي والمادي، ما فيه من امتيازات أو مصاعب وما يستحقه من مكانة حق على الجميع الوعي بها والانتماء لها تفاعلاً بين المؤسسة والفرد وليس في اتجاه واحد .. فمن يستمرئ الأخذ لن يعطي .. ومن يطلب إليه أن يظل يعطي فقط لا وجود له .. أما التضحية، وافتداء الوطن .. فذلك استعداد لا رهان عليه إلا بقدر رسوخ العلاقة السوية بين الوطن والمواطن (المعادل الموضوعي للسيادة) .. فداء لا يختبر إلا فقط حين يحين أوانه .. عندها يرخص الغالي والنفيس اللذان ينبغي زيادة رصيده منهما كل يوم! نقلا عن الاقتصادية