ناقش المقال السابق تغيرات الرأي الثقافي العام العربي بالقرن الماضي من حيث أنها كانت ذات ميول تحديثية بصبغة ليبرالية وطنية وإسلامية نهضوية سيطرت على المشهد السياسي، ثم في منتصفه تحول المشهد إلى القومية، وبنهايته مال إلى حركات الإسلام السياسي. فما هو مستقبل هذا المشهد؟ ثمة حالة من اندماج الأضداد السياسية بين الليبرالية والإسلامية؛ فهل يمكن أن تتآلفان في رؤية سياسية واحدة، على طريقة جدلية هيجل في تفسير الصراعات الفكرية عبر التاريخ بصراع الأضداد واندماجها؟ أي نشوء فكرة تحمل نقيضها بداخلها عبر فكرة تنفيها، لينتج بعدها فكرة ثالثة تنفي الثانية وتجمع النقيضين وتُآلف بينهما في فكرة جديدة؛ لتعاود السلسة كرتها في صيرورة حتى نهاية التاريخ. لكن هل هناك فعلاً ليبرالية إسلامية؟ وما هي؟ وكيف يراها أصحابها والآخرون؟. ما نراه من تصدر أحزاب الإسلام السياسي بالانتخابات كما في تونس (حزب النهضة)، والمغرب (حزب العدالة والتنمية)، ومصر (حزب الحرية والعدالة)، يعني أنها قبلت بالنظام الديمقراطي الليبرالي والتعددية الحزبية وتداول السلطة؛ فماذا بقي من أصوليتها؟ يمكن القول إنها تتحول إلى الليبرالية سياسياً ولكنها تحافظ على سلفيتها الثقافية والاجتماعية؛ أي أنها في طور التحول إلى أحزاب مدنية محافظة على غرار حزب العدالة والتنمية في تركيا. والآن هناك قطاعات أساسية من الإسلاميين تتوجه نحو الليبرالية السياسية وبعضها دخل في شراكة سياسية حتى مع تيارات يسارية كما في تونس. وهناك أحزاب مناصرة للإخوان المسلمين تصنف كأحزاب ليبرالية مثل حزب الوسط في مصر. بالمقابل هناك الحزب الليبرالي المغربي الذي يعلن أنه يرفض ويستبعد أي موقف يتنافى مع التعاليم الإسلامية. إذن، ثمة اندماج سياسي يتشكل في الليبرالية الإسلامية. فما هي الليبرالية الإسلامية؟ رغم أنها ليست تياراً واحداً بل أطياف وحركات متفاوتة ومفكرون متفرقون، إنما يمكن وضع المنطلقات الأساسية لها. بعد المنطلق الديني وهو الإيمان بالمبادئ الأساسية للإسلام، كالعقيدة الإسلامية وأركان الإسلام؛ فتلك الحركات ترى أن الإسلام يتبنى القيم الليبرالية العامة كالحرية (الرأي والتعبير والاعتقاد) واستقلالية الفرد والمساواة بين البشر وحقوق الإنسان؛ مركزة في تفسيرها للنصوص الدينية على هذه القيم. وهي تدعو للتفريق بين آراء الفقهاء وبين الإسلام، وإعادة تفسير النصوص الدينية وفقاً لظروف الزمان والمكان وعدم الاقتصار على التفسيرات القديمة. واختلافهم مع الأصوليين هو في تفسير القيم الإسلامية الأساسية للحياة الحديثة بشكل عام وللسياسة على وجه الخصوص. ففي السياسة يرى بعضهم أنه ليست هناك نصوص محددة في الفقه الإسلامي تتناول الأمور السياسية باستثناء الشورى، وحيث إن الليبرالية تتفق مع روح الإسلام فهي تغدو مرغوبة لبناء الدولة. والبعض يرى أن إنشاء مؤسسات سياسية ليبرالية (كالبرلمان والانتخابات والحقوق المدنية) وسياسات الرعاية الاجتماعية، لا يتناقض مع أي نصوص دينية، بل يمكن اعتبارها تطبيقاً لبعض المبادئ الإسلامية المنصوص عليها في بعض النصوص القرآنية، والتي يمكن استخلاصها أيضاً من سِيَر الخلفاء الراشدين (السيد يسين نقلاً عن كتاب "الليبرالية الإسلامية"، ليونار بايندر). وهي من هذا المنطلق لا تفصل الدين عن الدولة، بل ترى أن الدين الإسلامي لم يتدخل في تفاصيل السياسة أو طريقة بناء الدولة، إنما وضع مبادئ أخلاقية عامة وترك التفاصيل للاجتهادات البشرية. والليبراليون الإسلاميون يرون في ذلك عودة للمبادئ الأساسية للإسلام المتحررة من سلطة رجال الدين المسيسين أو من الانحرافات التي تراكمت على مر العصور أو من الاجتهادات التي كانت مناسبة في وقتها، ولكنها لم تعد كذلك في الوقت الحاضر. وليس في هذا جديد، فقد سبق أن ظهر منذ ما أطلق عليه عصر النهضة وما تلاها مفكرون إسلاميون نهضويون يطرحون مثل تلك الأفكار العامة، أمثال: الكواكبي، الأفغاني، محمد عبده، خير الدين التونسي، ابن باديس، علي عبد الرازق، مالك بن نبي؛ إلا أن هؤلاء كانوا في حيز الفكر وليس في التطبيق السياسي. الجديد هو أن هذه الأفكار بدأت ترى النور على أرض والواقع. المعترضون على الليبرالية الإسلامية كُثر. هناك أولاً، اعتراض اصطلاحي على دمج مفردتي ليبرالي وإسلامي في السياسة، فالليبراليون يشددون على التمييز بين مصطلحي: "مسلم" و"إسلامي"، فالمسلم هو الذي يدين بدين الإسلام وأغلب الليبراليين بالعالم الإسلامي هم مسلمون، بينما الإسلامي مصطلح سياسي حديث يعني الفرد المنتمي للحركات السياسية الأصولية؛ فكيف يجتمع الأصولي مع الليبرالي في رؤية سياسية واحدة؟ ومن هنا فسلامة المصطلح تكون الليبرالي المسلم وليس الليبرالي الإسلامي. والإسلاميون بدورهم يعترضون على الليبرالية الإسلامية اعتراضاً شرعياً يلخصها الكاتب الإسلامي تامر بكر بثلاثة. الأولى الجور على مصادر التشريع في الإسلام كإلغاء الإجماع بحجة عدم إمكانية حصوله، وكالقياس على أسس منطقية وليس أصولية فقهية.. وتقسيم التشريعات إلى عامة ووقتية تنتهي بزمنها، ليترتب على ذلك مبدأ تاريخية السُنَّة، أي أن أمور السياسة وإدارتها جاءت في السُنَّة لزمنها. والثاني هو اعتبار أي خلاف بين الفقهاء دلالة على عدم وجود حكم فقهي محدد في المسألة محل الخلاف، مما يسهل اتباع منهج توليفي في الأحكام الشرعية، والادعاء بأن هذا المنهج هو منهج الوسطية. والثالث هو استبدال منظومة القيم الإسلامية بمنظومة القيم العالمية، أي تحقيق القيم العالمية للإسلام، وليس القيم العليا للإسلام. اعتراضات النفي هذه لا يمكنها إلغاء وجود الليبرالية الإسلامية في الساحة، لكنها أحدثت إرباكاً وغموضاً في تحديد المصطلح والمنتمين له. فغالبية من ينتمي لليبرالية الإسلامية يتجنب تصنيفه لتفادي اتهامه بالميوعة السياسية أو الحيادية الانتهازية من كلا الطرفين الإسلاميين والليبراليين. ولا يكتفي الأصوليون بالنقد الشرعي لليبراليين الإسلاميين بل يتهمون نواياهم ومقاصدهم التغريبية الخبيثة. والليبراليون بدورهم يشكون بأن الليبراليين الإسلاميين يستخدمون الديمقراطية الليبرالية كتكتيك مرحلي للاستحواذ على السلطة ثم نسف كل القيم الديمقراطية. لكن اتهام النوايا والخبايا يصعب إثباته قبل ظهور ملامحه، والظاهر في أدبيات الليبراليين الإسلاميين أنهم يتبنون الاجتهادات الإسلامية المتكيفة مع الحياة العصرية والقادرة على بناء المجتمع الحديث دون الاعتماد على الاجتهادات الفقهية التقليدية التي يجدونها متحفظة جداً أو متشددة أو متخلفة. وهم في ميدان السياسة مدنيون يرون أن الإسلام ترك للمسلمين حريتهم واجتهاداتهم في اختيار أنظمتهم وفقاً لمصالحهم وظروفهم. نقلا عن الجزيرة