أتيحت لي الأسبوع الماضي فرصة مناقشة رسالة دكتوراه في قسم التخطيط الحضري والإقليمي في جامعة الدمام وموضوعها ''تعزيز المشاركة المجتمعية في إعداد الخطط الحضرية''. وهو موضوع على درجة بالغة من الأهمية، إذ إنه يتعلق بنهج جديد في رسم الخطط الحضرية يتم من خلاله أخذ الرأي العام المحلي في تحديد معالم المدينة العمرانية وإدارة توزيع استخدامات الأراضي ووضع رؤية مستقبلية للتنمية المحلية تمكن المجتمع المحلي من تطوير قدراته الحالية في مواجهة التحديات المستقبلية. فالمدينة هي بمثابة البيت الكبير لسكانها، وبالتالي لا بد أن يشاركوا في تصميمها بالطريقة التي تحقق مصالحهم وتجعلهم أكثر وعيا وسعادة وإنتاجا. وعلى أن التخطيط الحضري (تخطيط المدن) في ظاهره فني ومبني على اعتبارات علمية ومعايير مهنية، إلا أنه في جوهره سياسي يعتمد على تحقيق الرؤى والقيم والتوجهات المختلفة لسكان المدينة في توزيع الخدمات العامة واستعمالات الأراضي. لذا يكون من الخطأ التركيز على النواحي الفنية في التخطيط الحضري وإغفال السياسة الجانب الأهم في عملية صنع القرار الحضري. والمقصود بالسياسة عملية صنع القرار العام المحلي الذي يعكس حالة التوافق بين الآراء المختلفة لسكان المدينة في الإجابة عن ماذا، كيف، متى، وأين تكون الخدمات والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية في المدينة؟ وعلى سبيل المثال قرار رصف شارع في المدينة يتطلب تنفيذه تطبيق معايير فنية تخطيطية هندسية تتعلق بطوله وعرضه وسماكته ونوعية مكوناته، لكن أين سينفذ وفي أي حي؟ فهذا قرار سياسي، أي أنه يتطلب قرارا جماعيا من سكان المدينة. إن أي قرار تخطيطي بطبيعته يحدث تغييرا ويؤثر في حياة الناس اجتماعيا واقتصاديا، وبالتالي لا بد من أخذ رأيهم في الحسبان لضمان أن تكون هذه التأثيرات إيجابية وشاملة لأكبر عدد ممكن منهم، وفي الوقت نفسه التقليل من الجوانب السلبية الجانبية للقرار قدر الإمكان. إن المنافع التي تحققها المشاركة المجتمعية في صناعة الخطط الحضرية مهمة ومتعددة ومتنوعة، بل إنها أصبحت مطلبا أساسيا في إدارة المجتمع المحلي وضبط التنمية واستدامتها ومعالجة المشكلات التي تتفاقم مع مرور الوقت مثل الفقر الحضري والإسكان والنقل العام والازدحام المروري والتلوث البيئي وغيرها. وما يزيد من أهمية المشاركة المجتمعية في صنع القرارات التخطيطية التغيرات الكبيرة التي تشهدها المجتمعات المحلية مثل زيادة عدد سكانها وتغير أنماط الاستهلاك وارتفاع سقف التوقعات ومستوى الثقافة السياسية والتطور الهائل في تقنية المعلومات التي تتيح الفرصة للتواصل الاجتماعي. كما أن العولمة التي جعلت العالم قرية صغيرة وألغت الحدود السياسية بين الدول أدت إلى زيادة المنافسة بين المدن وأظهرت أهمية التحول من اقتصاد الموقع إلى اقتصاد المكان، ما يعني أن على سكان المدن العمل على تطوير قدراتهم وتحريك مواردهم في إنتاج خدمات وسلع متميزة تمكنهم من المنافسة. ومن جهة أخرى، أصبحت التنمية المحلية تلعب دورا كبيرا ومميزا وأساسيا في التنمية الوطنية. لذا كان الحديث عن نهج التخطيط من أسفل إلى أعلى، وهو يعني في حقيقته المشاركة المجتمعية. هذا الأسلوب اللامركزي في التخطيط اعتراف بأن المجتمعات المحلية لم تعد بسيطة ولا يمكن الاستمرار في إدارتها بأسلوب تقليدي يعتمد على التنظيمات البيروقراطية الرتيبة والاتصال باتجاه واحد وسلب سكان المدينة الإرادة في المساهمة في تنمية مدينتهم وصياغة رؤيتها المستقبلية. إن المدن مكان الحدث والتفاعل الإنساني وكيفما تكن، تكن التنمية الوطنية. لذا فإن أي محاولة للانعتاق من حال التخلف واللحاق بالعالم الأول يبدأ بتطوير المجتمعات المحلية وبناء قدراتها، وهذا لا يتأتى إلا من خلال المشاركة المجتمعية. وعلى أن هناك توجها حميدا للدولة في تعزيز المشاركة المجتمعية المحلية من خلال تفعيل المجالس البلدية، إلا أن تلك المجالس بصلاحياتها المحدودة وأدوارها الضيقة تظل قاصرة عن تلبية الاحتياجات الفعلية للسكان وتحقيق مشاركة فاعلة في تخطيط مدينتهم. والحقيقة أن المجالس البلدية اسم على غير مسمى فهي في واقع الأمر مجالس للبلديات وليست مجالس للبلدات، أي أنها ليست مسؤوولة عن كامل قطاعات المدينة وأنشطتها المتعددة التي تتعدى الخدمات البلدية التقليدية. ومن العجيب في نظام المجالس البلدية (أو بشكل أدق من المتناقضات) أن يترأس رئيس البلدية المجلس البلدي الذي من المفترض أن يراقب أداءه! وهذا دليل واضح على أن نظام المجالس البلدية يتطلب تغييره، ولا أقول تعديله بما يتناسب مع حالة التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي والتقني التي تشهدها المجتمعات المحلية السعودية. إن التحديات المستقبلية تتطلب إعادة صياغة أسلوب الإدارة المحلية باستصدار نظام خاص لها يحدد الأدوار وينسق الجهود ويمنح المجالس النيابية المحلية صلاحيات تتناسب مع حجم المسؤوليات الملقاة على عاتقها. هذا يستدعي بالضرورة التخلي عن معالجة القضايا الوطنية المتشابكة والمعقدة بحلول جزئية ولحظية وكردة فعل تمنحنا كمجتمع وهم الإنجاز الشكلي، لكن لا تعالج المشاكل من جذورها. إن زيادة المشاركة المجتمعية في صياغة الخطط الحضرية التي هي جوهر إدارة المدن سيؤدي إلى تعزيز ارتباط السكان بالمكان وتجذير الشعور بالانتماء ما يدفعهم إلى الإسهام في التنمية المحلية والحفاظ على مكتسباتها. وحقيقة الأمر أنه لا يمكن تصور تنمية محلية دون مشاركة مجتمعية لأنه إذا لم يتعاون سكان المدينة في تطوير مدينتهم فلن تفلح أي جهود بيروقراطية في تنمية المجتمعات المحلية. فعلى سبيل المثال إذا لم يتعاون سكان المدينة في جعل مدينتهم نظيفة فسيكون من المكلف جدا على إدارة المدينة تحقيق مستوى عال من النظافة مهما أنفقت من أموال. المشاركة المجتمعية لم تعد ترفا إداريا أو سياسيا، بل ضرورة لا مناص منها، بل يجب النظر إليها كفرصة يلزم اغتنامها لتعزيز الولاء والإحساس بالمكان ودفع الناس ليكونوا أكثر وعيا وإيجابية وتفاعلا مع قضاياهم المحلية وتحمل المسؤولية بدلا من البقاء متفرجين سلبيين يوجهون النقد ويكون نقاشهم حول من المسؤول وليس ما القضية وكيف يتم علاجها. نقلا عن الاقتصادية