طالما عاهدتُ نفسي أن لا أنساق وراء عاطفتي التي تدفعني إلى إحضار المخالفين من إخواني حين الكتابة، وإمساك القلم، والضرب على أحرف حاسبي؛ فأنا أشعر بأثر هجوم الكاتب على الآخرين في الإقناع بفكرته، والتسليم ببعض ما يقوله؛ لكنني مع محاولتي درء ذلك عن قلمي، وإبعاد شبحه عن قارئي الكريم، لم أستطع أن أنال منه ما أحب. العقل - أيها السادة - لا تضيع الأمة حين تتسلح به، ولا يتوه الفرد حين يعتصم بحباله، ويلجأ إليه؛ لأن العقل يدعوك أولًا لتسمع ما يقوله الآخرون، ويذهبون إلى ترجيحه، ويحثك على الاستفادة من المخالفين لك، ويُخبرك بنقصك الدائم. والعقل أيضا ميدانه مفتوح غير مغلق، وتصحيح أخطائه به قائم، لا ينقضي، ولا يتوقف! وإذا كنت أضع بين أيدي السادة القراء اعتذاري منه، فأود تفسير هذه المعضلة التي تتملك كثيراً منا حين الكتابة؛ لعل ذلك يُساعدهم في تَفَهّم هذه الخلّة فيّ وفي غيري، فأنا أشير بأصابعي كلها إلى طريقة تعليمنا، فقد تعوّدنا في خطابنا على تقرير رأينا، ثم التعرض للمخالفين لنا، نرد عليهم، ونستهجن آراءهم، ونحشرهم مع الشيطان وأعوانه! وهذه طامة من طوام التعليم الديني، ولا أقول الإسلامي، وهي التي تظهر على ألسنتنا حين الكتابة والحديث؛ فالإنسان ابن ثقافته، وولد طريقة تعليمه؛ خاصة إذا كانت هذه الطريقة يتلقاها المسلم في كل مكان، وفي كل زمان! فهل نعيد النظر في هذه الطريقة المحرضة أحيانا، والمسفهة للآخرين أحياناً كثيرة؟! في قُراء المقالات الذاهبة من يرى نفسه غير جدير بالتفكير، وعقله غير حقيق بالنظر، ومثل هذا ليس عليه جناح من أن يدع النظر في هذه المقالات التي تدور حول حديث البخاري - رحمه الله - ولينتظر من يحدثه عن ضرورة استقلاله العقلي، ومسؤوليته الشخصية عن نفسه، ويُفهمه أن كل نفس بما كسبت رهينة! فتلك بداهات، لم تعد أوقاتنا في هذا الزمن تحتمل إيضاحها لمن لم يصل إليها في هذا العالم المائر بالتنوع والاختلاف! هذا العالم الذي أضحت حاله لا تدعو إلى شيء قدر ما تدعو إلى تمكين العقل، واتباع سبيله! فآخر ما سرت عدواه إلينا اليوم هو الانفتاح على هذا العالم، فهل ستعيش أجيال الإسلام بثقافة محاربة العقل في حال انفتاحها على هذه الأمم التي لا تعرف شيئا، تحتكم إليه سوى العقل؟! من يحارب التقليد حين يصدر من غيره، ويستند إليه مخالفه، فيلومه أن ترك عقله، واستدبر تأمله، ورضي بالأشخاص، فعاش في غيابة الجهل، وكهف الظلام! ثم تراه يقف جبلًا أشم حين يترصد الآخرون للتقليد في بيئته، وينعون عليه إسلام عقله للرجال، فعليه أن يرثي نفسه، ويؤبنه مستقبله، ويقبع تحت ظل الجهل، فهو لم يعرف بعدُ من عيوب نفسه ما عرفه من عيوب غيره، وما لمثل الجاهل بنفسه من دواء سوى الإهمال، وإطالة العجب. تلك هي رسالتي إلى كل من رفع عن نفسه القلم، وأبعدها عن أصل التكليف، وهو العقل، فانتظر الآخرين أن يقدموا له الرأي، ويضعوا في حجره المشورة! فهم أهل المعرفة دونه، وذوو التفكير المستقيم خلاه، وهم المسؤولون عنه، وعن صحة تدينه، فلن يسأله الله - تعالى - عنه، فهم المسؤولون عنه بين يديه، والمعاقَبون على تقصيره، فهم سبب غوايته، وعلة رداه! وهم الذين سيجيبون عن أسئلة الملكين الموجهة إليه في قبره، وما لقوله - تعالى -وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم، ما أنا بمصرخكم، وما أنتم بمصرخي) في مثل هذه الثقافة سوى النسيان والغياب وراء حجب كثيفة، وسجف غليظة. العقل - أيها السادة - لا تضيع الأمة حين تتسلح به، ولا يتوه الفرد حين يعتصم بحباله، ويلجأ إليه؛ لأن العقل يدعوك أولًا لتسمع ما يقوله الآخرون، ويذهبون إلى ترجيحه، ويحثك على الاستفادة من المخالفين لك، ويُخبرك بنقصك الدائم. والعقل أيضا ميدانه مفتوح غير مغلق، وتصحيح أخطائه به قائم، لا ينقضي، ولا يتوقف! على حين يقودك تغليب النقل، وتعظيم دوره، إلى الاستسلام إلى نقل الرجال، وتقديسهم، وإطفاء عقلك، فيصبح الآخرون مسؤولين عنك! وهم براء من ذلك كله، فتلك حكمة الدين وروحه (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)، فلن تستطيع يوم القيامة البحث عن البخاري ومسلم وغيرهما - رحمهم الله - لتقول: يا الله، إن هذين الرجلين هما اللذان نقلا عن نبيك هذا الحديث في النساء! التقليد له أثر في ميدان الرواية، وفي ميدان الفقه، فالذي يدفع عن مذهبه الفقهي بالتعصب لأفراده، هو نفسه المسلم الذي يدفع عن نقلة الحديث، وعُزاة الأثر، ويبحث عن تسويغ لمعنى الحديث؛ ولو كان قبوله أبعد من الثريا. وهيمنة التقليد وسطوة الرجال على المسلمين قديمة جداً، وللسادة القراء أن يقيسوا تفشي هذا المرض في القديم من خلال هذا الحديث، الذي يرويه الحاكم - رحمه الله - ويُذيّله كعادته بمقالته الشهيرة في مستدركه:" هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه"، فقد جاء في هذا الحديث أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال:" إن الفساق أهل النار. قالوا: يا رسول الله، وما الفساق؟ قال: النساء. قال رجل: يا رسول الله: أليس أمهاتنا وأخواتنا وأزواجنا؟ قال: بلى. ولكنهن إذا أُعطين لم يشكرن، وإذا ابتلين لم يصبرن"! فلم يمنع الحاكم في ظني من أن يدفع هذه الرواية، ويستريب قليلا في رُواته! إلا استسلامه للرجال، وانقياده لهم، واستشعاره مسؤوليتهم عنه، وإيثاره توثيقهم وعصمتهم على صورة دين الله - تعالى - وصورة نبيه - عليه الصلاة والسلام -، فانظر إلامَ صيّرته ثقته في الراوي، وعصمته له؟ لم يقشعرّ جلد الحاكم - عفا الله عنا وعنه - أن سمع هذا الكلام معزوّاً إلى رسول الهدى ونبي الرحمة، فأودعه في كتابه، وغلبت حميّته للرجال على حميته للدين، وتلك آفة التقليد، وقدسنة الرجال، وإسلام العقل للنقلة، ولست أخال أهل هذا الزمان، الذين آثروا المذهبيات، إلا آخذين بهذا النهج نفسه، وسائرين على هذه الطريقة عينها، فالمعيار عندهم الراوي فحسب، فمتى كان ثقة مقدساً، فهو مقدم على الدين ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في الرعاية والاهتمام! ولولا هذه المنظومة المختلة، الدائرة على اتباع سبيل الرجال، ما جرى للمسلمين ما نراه اليوم من تخلّف عن ركب الحياة حتى ظن الناس، مما يرون من حالنا، أن الإسلام دين الآخرة فقط! ألقيتُ نظرة سريعة على محرك البحث قوقل، باحثاً عن أخبار حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -، فهالتني كثرة الاستفتاء حوله، وعجبت من تعدد الأسئلة عنه، وهي أسئلة، باعثها الاسترابة منه، والعجب من روايته. وهي وإن تكن استرابة العقل الفطري، الذي كوّنه الإسلام في نفوس المسلمين، فأنا أميل إلى تقديمه على العقل المشبع بمفاهيم التقليد، وثقافته، وأُوثره بالصواب عليه؛ فهو إلى استعمال العقل، المستنير بروح الدين، والانتهاء إليه، أقرب من ذاك المملوء بأقوال الرجال، والدفاع عنهم، والتحريض على مخالفيهم، والاستهانة بالعقل، والحجر عليه، وهو مناط التكليف، وحجر الزاوية في المسؤولية. لقد كان العقل الفطري في عموم المسلمين مستشعراً مناهضة هذا الحديث للدين نفسه؛ لكن أهل هذا العقل حين استفزّهم السؤال، وأضناهم التأمل في الحديث لجأوا إلى أصحاب العقل المقلد، الذين لا يكاد اليوم يُوجد غيرهم، فبذل هؤلاء جهودهم في إقناع المسلمات به، ودفعهن إلى الاستسلام لهذا الحديث، الذي يظنونه جزءاً من الدين، وبعضاً منه. والذي أميل إليه، ويمكنني الجزم به، هو أنّ أصحاب العقل المقلد لم يفكروا مجرد تفكير في دراسة سند هذا الحديث، فيكفيهم أن يكون البخاري ومسلم راوييه، وعليهم ما دامت الحال هكذا أن يشمروا عن سواعدهم، ويبذلوا ما يستطيعون من جهد، في تسويغه، وإقناع المسلمين به، فدور هؤلاء مقصور على هذه الوظيفة، وهي غاية ما يستطيعونه، ويصلون إليه، وتسمح لهم ثقافتهم التقليدية فيه، فسقفها مردوم، وأفقها - والله المستعان - مغلق! وليس صعباً عليّ أن أطرح العلة، التي جعلت كثيرا منا لا يعجب من حديث البخاري وغيره، ولا يستغرب من روايته، فيسعى جهده أن يدفع عنه، ويُسوّغ نسبته إلى رسول العالمين، فمردّ ذلك إلى أمرين؛ أولهما أن ثقافتنا اليوم تتشح بوشاح الوعيد، وتنصت لخطابه، وتتماهى معه؛ حتى أضحى التشديد على المسلمين والمسلمات هو بوابة الهروب في كل سؤال، لا تحضر له إجابة واضحة في ذهن المستفتي! والذهن المتشكّل بثقافة الوعيد، ويُمكن تسميته بالذهن الوعيدي، هو الغالب علينا اليوم، وله مظاهر كثيرة غير محصورة؛ منها ما نراه اليوم من تسابق المسلمين إلى التضليل والتبديع، والتفسيق؛ حتى صرنا نرى من الدين، والدفاع عنه، والحفاظ عليه، أن نهتم كثيرا بتصنيف المسلمين وفق قربهم وبعدهم عنا! فحين تضحي ثقافة الفرز البشري قائمةً سُوقها فاعلم - سيدي - أنّك تعيش في بيئة، يحيط بها الوعيد وثقافته من كل حدب وصوب! وثاني الأمريْن هو الانقياد للأفراد والأشخاص، والابتعاد عن عالم الفكرة وصناعتها، وهو الآن من أوضح وجوه ثقافتنا، فهذا ما نشاهده، ونراه جميعاً في كافة معارفنا وعلومنا، من صغار المتعلمين وكبارهم، فنقطة البدء دوماً حين يُطرح رأي أن يقال: مَنْ سبقك إلى هذا القول، أو من قال به قبلك؟! وما دام مسلمو هذا العصر لا ترتاح نفوسهم، ولا تهنأ دواخلهم؛ حتى يجدوا قائلًا بهذا الرأي أو ذاك في القديم، فليس لهذا من معنى سوى أنّهم غيّبوا أنفسهم، وتركوا الحلّ والعقد بأيدي رجال من الماضي اختاروهم، ونسوا أن لهم عقولًا تختلف عن عقول أسلافهم. لقد آن لنا اليوم أن نرجع إلى النص من جديد، ونُوليه اهتمامنا، ونذر الدعاوى الفارغة بعدم العودة إليه، والتمسك به، تلك الدعاوى التي تحملها الذاكرة، ولا يوجد في عمل العقل منذ قرون ما يشفع لها، ويُقنع الإنسان بها، بل لا أرى أنا اليوم في حياتنا ما يدل عليها، ويُحتج به لها؛ فهي حياة قائمة على سلسلة من التقليد، تبدأ به، وتنتهي إليه، فالمسلم المستفتي يبحث عن مطوع، يجعله بينه وبين النار، والعالم المفتي يصنع ذلك نفسه، فهو يبحث عن عالم قديم، يترسم طريقه، ويمشي فوق خطواته، فتلك المقالة العامية الشعبية (ضع بينك وبين النار مطوع) تمنحنا صورة عن المسلم اليوم، عالماً كان أم غير عالم؛ فعالمنا الإسلامي تحكمه ثقافة التقليد، وتهيمن عليه فكرة البحث عن من يتولّى المسؤولية عنه في القديم! فهل نرجو لمثل هذا العالم، الذي يعيش في دائرة من التقليد مغلقة، أن يُفكر مجرد تفكير في الانفتاح على غيره، أو أن يُعاود النظر في تراثه؟! نقلا عن الرياض