تقدم بعض الأقلام المخلصة أو الأدق في القول, بعض المفاتيح لكتاب سعوديين ولكاتبات سعوديات خاصة, اجتهادا يستحق الحوار في الحديث عن “نسوية سعودية" أو خطاب نسوي سعودي. ومع جرأة الطرح في خلق حالة تطبيع لحالة النفور من مصطلح أو تعبير “النسوية" التي كانت قائمة بالمجتمع السعودي ولا زالت.. ..فإنني أجادل هنا بأن المصطلح في الكثير من مضامينه الاستحقاقية وليس لفظيا لم يكن غائبا عن ساحة كتابات الرأي بالمجتمع السعودي، بل يمكن تتبعه في أكثر من مرحلة من مراحل التحولات بالمجتمع السعودي فيما يخص الشأن النسوي أو الوطني أو كليهما. ويظهر ذلك إما بصيغة مواقف تمهدية أو بأسلوب مطلبي أو بصياغات تحليلية. وفي رأيي الرصدي والتحليلي أن تواجد عدد من كتابات الرأي على جبهة “الطرح النسوي", ليس جديدا بل يعود تاريخه المكتوب إلى ما قبل ظهور تعليم البنات بالمجتمع السعودي وقد عثرتُ بمراجعة عدد من الصحف المحلية في دراستي البحثية لعهد تعليم البنات الأول على مشاركات هامة في التمهيد له, غير أن ذلك الطرح لم يكن في بداياته بطبيعة الحال أو بطبيعة المرحلة يعبر عن أطروحة نسوية متبلورة بالقدر الذي كان تعبيرا عن أشواق وطنية لعدد محدود من النساء ولعدد أكبر قليلا من الرجال الذين كانوا يطرحون تصورات نسوية مبدئية تتركز على المطالبة بحقوق محددة من حقوق النساء, مثل حق التعليم وحق العمل ومحاولة المطالبة برد بعض الاعتبار الاجتماعي لموقع المرأة بالمجتمع السعودي. مع ملاحظة غير هامشية وهي حرص معظم أصحاب ذلك الموقف على الاستقواء في جدل المعارضين لهذه الأطروحة واستمالة الرأي العام لصالح استحقاق النساء, وربما أيضا لقناعات عقلية على رد منطلقاتهم إلى المرجعية الإسلامية باقتباسات من القرآن والسنة, مع حرص مصاحب على النأي بأطروحتهم عن أي منطلقات توحي أو يشتم منها الاصطباغ بالمرجعية “النسوية" ناهيك عن تسميتها باسمها, لا بمعناها السياسي, الحركي ولا بمعناها الفكري أو التنظيري الأكاديمي. غير أننا يمكن أن نلحظ في مراحل لاحقة, وإن لم يكن بخط تصاعدي دائما, تقدم أطروحة الاستحقاق في الشأن النسوي بالمجتمع السعودي بأقلام عدد محدود من الكتاب المستنيرين وبعدد أكبر متزايداً يوميا من كاتبات الرأي. ومع الاستمرار في حرص الغالبية العظمى منهم جميعا على السير بين الخطين المتوازيين الموضحين أعلاه بما حافظ على التحفظ في استخدام كلمة نسوية كمصطلح وكتعبير وكوعاء مفاهيمي ومعرفي, فإن النظر لقائمة المواضيع والاستحقاقات النسوية والمطالب الوطنية التي كانت ولا زالت تطرح من قبل أولئك الكاتبات والكتاب تشي بأن ذلك التحفظ كان يواجه تحديا وإن لم يكن تحديا لفظيا في استخدام كلمة نسوية, فقد كان تحديا في طرح العديد من مضامينها بالمعنيين السياسي والمعنى التنظيري والمطلبي وإن لم يترجم ذلك على أي تطبيقات تنظيمة كقيام مؤسسات مدنية للعمل النسوي بالمعنى الحركي. وكمثال على ذلك الطرح العديد من المعالجات النقدية التي تحقق بعضها ومازال بعضها متأرجحا أو مؤجلا وإن زالت هيبة اعتبار المطالبة به من التبوهات. ومن عينة تلك المعالجات: المطالبة باستصدار بطاقة الهوية للمرأة السعودية كرمز لشخصيتها الوطنية المستقلة وكتعريف واعتراف بأهليتها القانونية في تعاملات الفضاء العام, موقف المرأة السعودية أمام المحاكم الشرعية بما فيها المطالبة بمحاكم للقضايا الأسرية وخلق بيئة طبيعية وصديقة ومؤازرة ذلك قانونيا وقضائيا لحضور المرأة في الفضاء العدلي, وكذلك المطالبة بمدونة للأحوال الشخصية مقننة لا تحتكم إلى الأحادية الفقهية ولا إلى تقدير القضاة, بما يضمن على سبيل المثال حقوق المطلقة، حقوق الحضانة والنفقة واختيار الزوج ويحدد عمر الزواج وما إليه من قضايا الأحوال الشخصية للمرأة والأسرة، المطالبة بمشاركة المرأة في مواقع صنع القرار ومنها التمثيل في مجلس الشورى, الغرف التجارية مجالس البلديات وسواها من مؤسسات الدولة المجتمع. هذا بالإضافة إلى مطالب جوهرية أخرى مثل رفع الوصاية عن المرأة بمعناها السياسي والاجتماعي والتعامل معها باعتبارها مواطنة تتمتع بالرشد والأهلية، المطالبة بمساواتها في الأجور والامتيازات في وظائف الدولة والقطاع الخاص وفتح جميع مجالات العمل الشريف في وجهها مع توفير مجالات وفرص التعلم مما تحقق مثاله في برنامج خادم الحرمين الشريفين للإبتعاث وفي استحداث وزارة التعليم العالي في الأعوام الأخيرة للكثير من التخصصات التي لم تكن متاحة لطلاب الجامعات الإناث من قبل. نقد الوعي الذاتي للنساء سواء في المسائل التي تخص النساء أو المسائل الوطنية مع تأصيل موقف عدم النظر للشأن النسوي من منظور صراعي في العلاقة مع الرجل وعدم النظر إليه لا بعقلية المعازل عن المجرى الوطني العام ولا بروح المسكنة أو شخصية الضحية. أما اليوم فقد جاءت استجابة خادم الحرمين الشريفين بدخول المرأة مجلس الشورى والمجالس البلدية وبعد تفعيل القرار الأول، فإن المتابع لا بد أن يلحظ تنامي لغة مباشرة في مقالات الرأي المعنية بالشأن النسوي. وقد عمدت في ذلك إلى الاجتهاد في تقديم بعض اشتقاقات مصطلحية من جهاز التنظير النسوي الغربي وكذلك التنظير النسوي بتجلياته العربية والإسلامية لتسمية الأشياء بأسمائها فيما يخص بعض المسائل الشائكة في التعامل مع أوضاع النساء بالمجتمع السعودي. ولأهمية هذه النقلة وللأمل بأن تتعمق لتشكل نقلة نوعية في مقاربة الشأن النسوي من منظور نقدي إصلاحي وطني، فإن من المهم أن لا تعتبر هذه الطروحات نفسها بأن عليها أن تعيد اختراع العجلة بل تعمل في مضمار قانون التراكم بحيث يكون ما تجيء به إضافة على ما تقدم من جهود نسوية في الشأن النسوي نحو تحولات نوعية. كما أن من المهم أن يجري التعامل من قبل مثل هذه الطروحات النقدية المستجدة والجدية مع كل ما تقدم من جهد ومع ما يطرح من اجتهادات كالموقف من تفعيل قرار مجلس الشورى والشوريات وسواها بروح نقدية تقف فيها من تلك الجهود والاجتهادات والتفاعلات موقف النقد الذاتي لما تسميه هذه الكتابات ب"النسوية السعودية"، لا موقف النائي بنفسه عن هذه النسوية السعودية المتعالي عليها. وأخيرا وليس آخرا فلا بد من ملاحظة ما تنطوي عليه ما تسميه هذه الطروحات ب"النسوية السعودية" من تنوع وتعدد وتقر به للتعامل معه كعنصر إثراء لا كعنصر إقصاء. ففي البداية والنهاية الوطن حق للجميع والشأن النسوي شأن عام وللكل حق حب الوطن واقتراح آليات الحلول للقضايا المعلقة مع تعميق المشتركات والحوار حول الاختلافات ما استطعنا إلى ذلك سبيلا دون لهجة استقوائية بالأبوية تنتقد مبدأ الإكراه فيما لا ترى غبارا عليه في فرض قرارات تريدها من القيادة السياسية دون حتى ربطها بشرط الحرية الشخصية والعامة, وكذلك دون لهجة نقدية تنتقد النخبوية فيما تقدم ما يجب أن يكون نقدا للذات النسوية بتنوعها وتعددها على أنه نقد من نسوية عارفة إلى نسوية تابعة في تعميم مخل بما يرام من تطور علاقات سوية بين الأطياف بأجيالها وتوجهاتها وتجاربها المختلفة. فمن التحديات العمل على تفكيك البنى القديمة المتكلسة في تعاليها أو عزلتها واستبدالها ببنى أقدر على استيعاب التنوع والتعدد في لحمة وطنية والعمل معا لتعلم تجربة التحول نحو الإصلاح. ولله الأمر من قبل ومن بعد.. نقلا عن الجزيرة