حينما تأسس مجلس التعاون لدول الخليج العربية في عام 1982، كان الهم الأمني مسيطرا على صانع القرار الخليجي، بل سببا محوريا في قراره بإطلاق هذه المنظومة الإقليمية. قيل وقتها إن المنظومة جاءت لمواجهة تداعيات الحرب العراقية - الإيرانية المريرة. والبعض قال إنها أيضا لمواجهة تداعيات غزو أفغانستان من قبل الدب الروسي الذي كان وقتئذ قد أحكم سيطرته على دول عديدة قريبة من شبه الجزيرة العربية أو تحيط بها مثل الصومال وإثيوبيا واليمن الجنوبي، ناهيك عن التسهيلات العسكرية التي كان الاتحاد السوفياتي السابق يتمتع بها في الهند والعراق بموجب معاهدات ثنائية استراتيجية. وفريق ثالث ذهب أبعد من ذلك، قائلا: إن المجلس جاء كرد فعل عملي ضد مشروع الزعيم السوفياتي ليونيد بريجينيف القاضي بإعلان منطقة الخليج منطقة حياد خالية من الأسلحة والقواعد العسكرية، ومفتوحة أمام كل الأساطيل البحرية. وبغض النظر عن موجبات تأسيسه، وسواء كان هذا السبب أو ذاك، فإن مجلس التعاون الخليجي نجح بمرور الوقت وتصلب عوده في الانتقال من الوظيفة الأمنية إلى وظيفة التنسيق والتعاون والتكامل ما بين دوله الست في مختلف المجالات، السياسية منها والاقتصادية والثقافية والدفاعية والإعلامية والتربوية. وهذا ما أثلج بالفعل صدور شعوب المنطقة، وزاد من تمسكها بالمنظومة وقناعتها بأهميتها ودورها المأمول، رغم أن خطوات المجلس اتسمت بالحركة السلحفائية لسنوات طويلة، ناهيك عن أن تطلعات المواطن الخليجي وطموحاته كانت أكبر بكثير من مجرد التعاون والتنسيق والتكامل، بمعنى أنه عبّر في فترة مبكرة عن رغبته في قيام الكيان الخليجي الموحد، مشيرا إلى أن ما يجمع شعوب المنطقة من مسقط إلى الكويت غير مسبوق في تاريخ الأمم، الأمر الذي سيسهل عملية التوحد والاندماج والانصهار لو وجدتْ الإرادة السياسية. وما بين عام التأسيس في 1982 وعام 2011 الجاري، جرت مياه كثيرة، وحدثت تطورات محلية وإقليمية وعالمية خطيرة، وسقطت أنظمة، وتفتتت دول، وانهارت أو تجمدت أنشطة منظمات إقليمية مشابهة، لكن مجلس التعاون ظل وحده الصامد والمتماسك أمام الأعاصير والرياح العاتية، بسبب تشابه أنظمة دوله وتشابك مصالحها ومصيرها، فضلا عما يربط شعوبها من أواصر القربى والمصاهرة، وهو ما لم يتوافر مثلا لمجلس التعاون العربي أو مجلس التعاون المغاربي. غير أن مجلس التعاون الخليجي اليوم أمام تحد خطير غير مسبوق يتمثل فيما تواجهه دوله من هجمة إعلامية شرسة، ومؤامرات دنيئة تحاك في الظلام، وتخطيط مريب لزرع الفوضى والفتنة والاقتتال الداخلي، وغير ذلك مما تقوم به أو تشرف عليه الجارة الطامعة إياها وأتباعها وطابورها الخامس الموزع في المنطقة العربية، الأمر الذي يحتم على دول المجلس الخروج بالصيغة التي تلبي الحد الأدنى من مطالب شعوب المنطقة في هذا المنعطف المصيري. وهذا الحد الأدنى ليس سوى إعلان الكيان الكونفدرالي الخليجي، الذي أصبح مطلبا شعبيا عارما، وليس مجرد فكرة نخبوية. وطالما أتينا على ذكر النخب، فإنه من المؤسف حقا أن يتحفظ بعض النخب الخليجية على الفكرة من باب التخوف من هيمنة الأخ الأكبر على أشقائه الصغار، أو من باب ضرورة قيام مؤسسات دستورية ديمقراطية على النمطين الكويتي والبحريني في كل دولة خليجية أولا قبل التفكير في الكونفيدرالية (مثلما سمعت بنفسي في مؤتمر فكري عقد أخيرا في إحدى الدول الخليجية)، بل من المؤسف أيضا أن يتخذ البعض من تلك المخاوف سببا في التندر على الفكرة بطريقة سمجة كعنونة أحدهم مقاله الصحافي ب ''لا كونفيدرالي، ولا كونفيدرالك''، بدلا من أن يفقِّه العامة والبسطاء فيشرح لهم أن الكونفيدرالية هي عكس الفيدرالية، وتعني ببساطة قيام رابطة بين دول مستقلة ذات سيادة، على أساس تفويض كل عضو بعض صلاحياته لهيئة أو هيئات مشتركة من أجل تنسيق السياسات في عدد من المجالات بآليات ومنهجيات متفق عليها. كنا نظن إلى وقت قريب أن العائق أمام الوحدة الخليجية هو إصرار كل كيان على عدم الذوبان في كيان فوق قطري أكبر، حرصا منه على سيادته الوطنية وحرية قراره، وشخصيته الدولية، أو خوفا من مشاركة الأشقاء له في ثرواته، لكننا اكتشفنا الآن عائقا جديدا يتمثل في تلك النخب المتفلسفة التي تكابر حول المخاطر وشبكات التخريب والتجسس المحيطة بنا من كل صوب، ولا ترى أبعد من أرنبات أنوفها، علما أنها كانت إلى وقت قريب تصدع رؤوسنا ليل نهار بالشعارات الوحدوية التي تلقنتها في مدارس عبد الناصر وعفلق وجورج حبش. حينما ندعو إلى الكونفيدرالية الخليجية، فإننا لا نأتي بأمر أو نموذج مستنكر. فقد سبقتنا إليه أمم لم تكن تعيش المخاطر والتحديات التي نعيشها. ثم إن الكونفيدرالية الخليجية ليس شرطا أن تبدأ بكل دول مجلس التعاون دفعة واحدة. إذ يكفي إطلاقها بدولتين كي تلتحق بها الشقيقات الأخريات لاحقا، ولتكن لنا في الاتحاد الأوروبي أسوة. فهذا الأخير الذي يبلغ عدد دوله اليوم 27 دولة (لا يجمعها ما يجمع أقطارنا الخليجية من تاريخ مشترك، وروابط عائلية، وتطابق ثقافي، وعلاقات اجتماعية) بدأ في عام 1952 بثلاث دول فقط هي فرنسا وألمانيا وإيطاليا، لكنه تطور تدريجيا وفق خطة مدروسة، سواء لجهة عدد الأعضاء (من 3 إلى 6 إلى 18 فإلى 27)، أو المؤسسات التابعة (المفوضية الأوروبية للشؤون الخارجية، ومحكمة العدل الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي والبرلمان الأوروبي)، أو المهام المنوط به (تنسيق المواقف والسياسات والتشريعات الاقتصادية والمالية والدفاعية والعمالية والتربوية، ناهيك عن تنسيق التحرك الدبلوماسي)، أو لجهة التسمية التي تحولت من ''جماعة الفحم والصلب في عام 1952''، إلى ''السوق الأوروبية المشتركة في عام 1958''، فالاتحاد الأوروبي بموجب معاهدة ماستريخت في عام 1993. إن الكيان الكونفيدرالي الخليجي الذي بات مطلبا شعبيا اليوم سيضم في حال إعلانه نحو 40 مليون نسمة بناتج إجمالي سنوي يقارب 900 مليار دولار، كما كتب الزميل الدكتور محمد غانم الرميحي أخيرا، وستكون له قدرة التحكم في نحو 40 في المائة من صادرات النفط العالمية والمنتج العالمي من الغاز الطبيعي أي شريان الحياة وعصب الصناعة في الشرق والغرب. وبهذه الإمكانات والقدرات وغيرها كثير سيستطيع - بإذن الله - إحباط المخططات الشريرة التي تستهدف أمن المنطقة واستقرارها، سواء جاءت من ضفة الخليج الشرقية، أو أتت مِنْ صوب مَنْ وثقنا بهم لعقود طويلة، وحسبناهم حلفاء، فإذا بهم منغمسون في مخططات سرية مريبة تستهدف تفتيت أوطاننا والنيل من سلمها الأهلي واستقرارها، أو هبت علينا من أنظمة ''الربيع العربي'' التي لم تكتمل ملامحها ومواقفها السياسية تجاهنا بعد. نقلا عن الاقتصادية