وما إن اتخذ رئيس الجلسة (القاضي) مكانه في القاعة الأولى من مركز التنمية في السعودية حتى قال: لا ينكر أحد أن حكومة المملكة منذ منتصف الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي صرفت واستثمرت المال الكثير من أجل تنمية البلاد. وركزت في ذلك على ما يسمى في أدب التنمية بالتجهيزات الأساسية مثل الطرق والمدارس والمستشفيات وغيرها في ظل استتباب الأمن والأمان. وحيث إننا وصلنا إلى مرحلة من التنمية تتطلب إعادة هيكلة الاقتصاد السعودي نظرا لأن الاستمرار في طريقة إدارة الاقتصاد كما في السابق، بالرغم من كل الإنجازات التنموية، لن تؤدي إلى الاستفادة القصوى من الموارد المتاحة والكامنة ولن تقودنا إلى تنويع قاعدة الاقتصاد المرغوبة، رأينا عقد هذه الجلسة العلنية لتدارس الأمر. نهض ممثل القطاع العام وقال: لقد ابتعدنا طوعا في مصروفاتنا واستثماراتنا عن مزاحمة القطاع الخاص بقدر الإمكان إيمانا منا بنظام الاقتصاد الحر في المملكة. وركزنا على إنشاء وتحسين التجهيزات الأساسية وتركنا المجال مفتوحا للقطاع الخاص ليستثمر في الزراعة والصناعة والخدمات وغيرها من قطاعات إنتاجية. لا بل لم تغرنا نجاحاتنا من الاستثمار المباشر في بعض الأنشطة الاقتصادية مثل "سابك" من تغيير السياسة الاقتصادية المنبثقة من نظام الاقتصاد الحر، فماذا كانت النتيجة؟ ما زال الاقتصاد السعودي يعتمد اعتمادا كليا تقريبا على قطاع النفط ولم تتنوع قاعدته الإنتاجية بدرجة ملموسة. ويعود جل الأسباب في ذلك إلى القطاع الخاص الذي لم يقم بواجبه نحو تنمية المملكة ولم يتعاون مع القطاع العام إلا ما ندر وعلى سبيل المثال لا الحصر: 1 مع كل المساعدات والإعانات التي قدمها القطاع العام (الدولة) للقطاع الخاص فهو لم يوظف حتى الآن إلا القليل القليل من العمالة السعودية، ويتذرع بأعذار كثيرة غير مقنعة وهو يغرف يوميا من بحر العمالة في هذا العالم. 2 هو قطاع يأخذ الكثير ولا يعطي نسبيا إلا القليل، تعان المواد الغذائية وغيرها من المواد من قبل القطاع العام للتخفيف عن كاهل المستهلك من زيادة الأسعار ولا يتوانى القطاع الخاص عن رفعه الأسعار متذرعا بأسباب الكثير منها لا يقبلها المنطق. 3 يطلب من القطاع العام الابتعاد عن إدارة الاقتصاد والتدخل في شؤونه اعتمادا على أن المملكة تتبع نظام الاقتصاد الحر، وينسى القطاع الخاص أن نظام السوق الحرة يتطلب من أجل كفاءة الأداء الابتعاد عن الاحتكار وتركيز الثروة. 4 عنده حساسية مفرطة حين تذكر الضريبة متعللا بأنه يدفع الزكاة والقطاع العام يؤمن بأنه لو دفع الزكاة المقررة شرعا لما احتاج الضمان الاجتماعي وغيره من المؤسسات الخيرية لإعانات من الدولة والتي تزداد سنويا. وما إن جلس ممثل القطاع العام حتى نهض ممثل القطاع الخاص وخاطب القاضي: نحن لا ننكر أن بعض ما ذكره ممثل القطاع العام صحيح لكننا نعتقد أن الجزء الأكبر منه ناتج من تقصير القطاع العام نحونا فمثلا: 1 - وصلت الإدارة العامة تقريبا لحالة من الشلل مع الاستثناء هنا وهناك كدليل على قدرة المملكة على العطاء بشكل أفضل وما إدارة الحج سنويا بكل هذه الكفاءة إلا برهان قاطع على قدرتنا على تدبير أمورنا إذا تكاتفت الجهود. فلماذا إذن تأخذ المعاملات الوقت الطويل لإنجازها وصاحب الحق ينتظر السنين أحيانا ليحصل على حقه الصادر به حكم قطعي، فكيف نستثمر في مثل هذه البيئة؟ 2 – كيف يستثمر القطاع الخاص في بيئة ما زالت تفتقر إلى وسائل كفؤة لفض المنازعات التجارية. فقطاع القضاء في المملكة ما زال متأخرا لأداء واجبه بدفع عملية التنمية هذا حادث الآن مع اعترافنا بأن الدولة رصدت كل المبالغ المطلوبة لتطويره. وما زلنا ننتظر التنفيذ. 3 – يفتقر القطاع العام إلى أبسط قواعد التنسيق بين مشاريعه وهذا يؤدي إلى الهدر المالي أثناء تنفيذ المشاريع وتأخير تنفيذها في أكثر الحالات، وهذا بدوره يؤخر بدء الإنتاج في القطاعات التي تتطلب تنفيذ مشاريع القطاع العام أولا. 4 – ينظر القطاع العام ممثلا في أكثر موظفيه إلى القطاع الخاص وكأنه عدو لا شريك في التنمية ولا هدف له إلا الربح الزائد متناسيا ذلك الموظف أو الموظفون المخاطر التي يتحملها القطاع الخاص نتيجة لسوء الإدارة في القطاع العام بالذات. ولهذا فلا يرغب موظفو الدولة (الاستثناء وارد) في مشاركتهم في اتخاذ القرارات التي تخص الاقتصاد السعودي. 5 – يعلن القطاع العام (الدولة) الكثير من القرارات الداعمة لتنمية ذات قاعدة إنتاجية متنوعة ونفرح بها، لكن فيما بعد إما لا تنفذ هذه القرارات أو تأخذ الوقت الطويل لتنفيذها، فكيف يثق القطاع الخاص ويستثمر؟ وهنا نطق القاضي وقال: مما سمعت فالكثير مما قاله كل منكما صحيح، ونظرا لأن المملكة لا تستطيع الاستمرار بإدارة الاقتصاد كما مضى، حكمت عليكما بالإقامة الجبرية في مكان مريح لتعودا لي بعد ثلاثة أشهر، وما إن عادا إلا أعلن اتفاقهما نظرا لاقتناع كل منهما بأن هذا الوضع الحالي وطريقة إدارة التنمية يجب أن تتغير جذريا لتفادي مشاكل جمة اقتصادية وغيرها في المديين المتوسط والبعيد، حيث إن المصروفات في القطاع العام إن استمرت على هذا المنوال وبهذه الطريقة المفتقرة إلى الاستثمار الأمثل ستصعب السيطرة عليها خاصة أنها مرتبطة ارتباطا مباشرا بسعر البترول وكمية إنتاجه والتي بدورها تعتمد على السوق الدولية والتي هي خارج سيطرة المملكة. وسيتم استكمال ما تبقى من هذا الموضوع في جزأين آخرين. نقلا عن الاقتصادية