في بداية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) طرح الدكتور علي السلمي، نائب رئيس الوزراء المصري، وثيقة تتضمن المبادئ العامة التي يجب أن يقوم عليها الدستور المصري الجديد، وكذلك معايير تشكيل الجمعية التأسيسية التي ستتولى إعداد الدستور. ونصت الوثيقة على أن مصر دولة مدنية ديمقراطية تقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون. كما نصت على أن الشعب المصري جزء من الأمة العربية وأن الإسلام هو دين الدولة، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. ويقوم نظام الدولة على التوازن بين السلطات، والتداول السلمي للسلطة، وتعدد الأحزاب - شريطة ألا تكون عضويتها على أساس ديني أو عرقي أو طائفي. إلا أن الوثيقة تضمنت إلى جانب هذه القواعد العامة، فقرتين تعطيان القوات المسلحة، حق التدخل في المسائل السياسية في المستقبل. فقد جاء في البند التاسع أن مهمة القوات المسلحة - لن تكون هي حماية البلاد من أي اعتداء خارجي فقط - بل لها كذلك حق التدخل لحماية الشرعية الدستورية. كما نص البند العاشر على أن تكون الشؤون الخاصة بالقوات المسلحة وميزانيتها من اختصاص المجلس الأعلى للقوات المسحة وحده، وفي حال إعلان الحرب، يكون على رئيس الجمهورية بعد الحصول على موافقة مجلس الشعب، أخذ موافقة القوات المسلحة كذلك - ليس بشكل استشاري - بحيث يكون لها القرار النهائي في هذا الأمر. وحددت وثيقة السلمي طريقة تشكيل الجمعية التأسيسية التي ستقوم بوضع الدستور، بحيث تتضمن ثمانين عضوا يتم اختيارهم من بين المؤسسات المدنية، ويكون لمجلس الشعب الجديد اختيار عشرين عضوا فقط. أثارت وثيقة السلمي اعتراضات حادة من كافة الأحزاب والهيئات السياسية في مصر. وبينما تركزت اعتراضات الجماعات السياسية على رفض البندين المتعلقين بدور القوات المسلحة في الحياة السياسية، رفضت جماعات الإسلام السياسي الوثيقة في مجملها، وهددت بالنزول إلى الشارع والاعتصام حتى يتم إلغاء وثيقة الدستور. ولأن «الإخوان» يتوقعون أن تكون لهم - مع حلفائهم من السلفيين - الغالبية في مجلس الشعب القادم، فهم يصرون على أن يتولى هذا المجلس اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية لوضع الدستور. كما أنهم يرفضون أن ينص الدستور الجديد على أن مصر دولة مدنية، حيث إنهم ينوون إعلان مصر دولة إسلامية. ولما كان المجلس العسكري يحاول تفادي التصادم مع الجماعات الإسلامية خوفا من الاضطرابات، فقد اضطر السلمي إلى التراجع عن عدة نقاط في وثيقته لإرضائهم. أجرى السلمي تعديلات على وثيقته تجعل اختيار أعضاء اللجنة التأسيسية للدستور من حق مجلس الشعب وبالأغلبية البسيطة - النصف زائد واحد - وليس بأغلبية الثلثين كما هو معتاد في الأمور المتعلقة بالدستور. كما أسقط النص على ضرورة موافقة مجلس الشعب قبل إعلان الحرب، والاكتفاء بموافقة مجلس الدفاع الوطني. وتماديا منه في محاولة إرضاء الإسلاميين، وافق السلمي على أن تكون الوثيقة غير ملزمة ولا يصدر بها إعلان دستوري. رغم كل هذه التراجعات والتنازلات، صممت الجماعات الإسلامية على الخروج إلى ميدان التحرير في مظاهرة في 18 نوفمبر لمطالبة المجلس العسكري بإلغاء وثيقة المبادئ الدستورية، وقال الدكتور يسري حماد، المتحدث باسم حزب النور: نحن نرفض الوثيقة شكلا ومضمونا. وعندما رفضت الأحزاب المصرية مشاركتهم، احتشدت الحركات السلفية ومعها أحزاب «الإخوان المسلمين» في ميدان التحرير، ونشروا لافتاتهم وسيطروا على المنصات. لكنهم سرعان ما فوجئوا بوصول شباب حركة 6 أبريل والاشتراكيين الثوريين وعدد من التيارات والحركات والائتلافات الشبابية إلى الميدان. وبينما طالب الإسلاميون بإلغاء الوثيقة الدستورية، طالب شباب الثورة بسرعة تسليم المجلس العسكري للسلطة إلى المدنيين وتحديد إطار زمني لذلك، وعدم محاكمة مدنيين أمام محاكم عسكرية. وعندما انفضت مظاهرة الإسلاميين عند الغروب، ظل عدد من شباب الثورة معتصمين أمام مجمع التحرير. ولما حاولت الشرطة إخلاء الميدان في صباح اليوم التالي، سقط بعض القتلى وعاد شباب الثورة إلى الميدان مرة أخرى، وتزايدت المواجهات مع رجال الأمن. وفي اليوم الثالث خرج الشباب في مظاهرات كبرى بالقاهرة ومدن أخرى، مطالبين بتشكيل حكومة إنقاذ وطني لها صلاحيات كاملة، ووضع جدول زمني لانتخاب رئيس الجمهورية ورحيل المجلس العسكري. استجاب المجلس العسكري لمطلبين من مطالب الشباب، فقرر قبول استقالة وزارة عصام شرف تمهيدا لتشكيل حكومة إنقاذ وطني، وأعلن المشير طنطاوي أن انتخاب رئيس الجمهورية سيتم قبل نهاية شهر يونيو (حزيران) المقبل ويعود الجيش إلى ثكناته، وأن انتخابات مجلس الشعب ستجري في موعدها في 28 نوفمبر. وهكذا قام شباب الثورة بإسقاط حكومة عصام شرف، ومعه سقط علي السلمي ووثيقته الدستورية. ورغم أن «الإخوان المسلمين» رفضوا مشاركة الشباب في اعتصامهم، فإنهم كسبوا المعركة دون قتال، حيث ستجري انتخابات مجلس الشعب دون الالتزام بوثيقة تحدد نوعية النظام الجديد ولا كيفية اختيار الهيئة التأسيسية لوضع الدستور. فعند بداية الثورة على نظام حسني مبارك، انضم شباب «الإخوان» إلى ثورة الشباب، ليس اقتناعا منهم بأهدافها، بل من أجل السيطرة عليها وإقامة الدولة الدينية التي يحلمون بها منذ ثمانين عاما. وسار إخوان مصر على درب الإمام الخميني في إيران، فعندما قام الطلاب الإيرانيون بالثورة على حكم الشاه سنة 1978، كانت أهدافهم هي نفس أهداف ثوار القاهرة، تحقيق الديمقراطية والعدالة، وكان الطلاب الثائرون من الشيوعيين وجماعة «مجاهدين خلق». فأعلن آية الله الخميني من خارج البلاد تأييده لثورة الطلاب وطالب أتباعه من الإسلاميين بالانضمام إليهم. وعندما أعلن الشاه الأحكام العرفية ونظم الطلاب مظاهرات مليونية أجبرت الشاه على الرحيل، عاد الخميني إلى طهران حيث استقبله الثوار استقبال الأبطال. وسرعان ما انقلب الخميني على شباب الثورة وكون دستورا جديدا يعلن قيام الدولة الإسلامية في إيران وقام بتصفية شباب الثورة باعتبارهم أعداء الله. نقلا عن الشرق الاوسط السعودية