في كتابه (صور المثقف)، الصادر باللغة الإنجليزية سنة 1994م، اعتبر الناقد الفلسطيني إدوارد سعيد أن الخطر المهم الذي يتهدد المثقف هذه الأيام، أكان في الغرب أم في العالم غير الغربي، لا يكمن في الأكاديميا، أو في الروح التجارية المروغة للصحافة ودور النشر، وإنما في مسلك الاحترافية. وما يعنيه سعيد بالاحترافية، هو اعتبار وظيفتك كمثقف وكأنها عمل تؤديه كسبا للرزق بين التاسعة والخامسة، عين لك على ساحة الجدار، بينما الأخرى حولاء من النظر في ما يعتبر سلوكا احترافيا سليما، لا تحدث هزات بلا داع، ولا تشرد إلى أبعد من الأنماط والحدود المقبولة، بل تهيئ نفسك لتكون رائجا، ولائقا قبل كل شيء، ومن ثم تصبح موضوعيا، وغير مثير للجدل، وغير معني بالسياسة. هذا الرأي عني به الكاتب البريطاني فرانك فوريدي، وأشار إليه في كتابه (أين ذهب كل المثقفين؟)، وأظهر توافقا معه، وتأييدا له، ووجد فيه تأكيدا لعدم التوافق بين روح الاحترافية وروح المثقف. ومن جهته رأى فوريدي، أن العمل الفكري حالما يتحول إلى عمل احترافي فإنه يفقد استقلاله، ومن ثم قدرته على طرح الأسئلة الصعبة على المجتمع، وبدلا من ذلك فإنه يكتسب وظيفة إدارية وتكنوقراطية، الوضع الذي يثير التشكك في مدى إمكانية استمرار دور المثقف المستقل. إعطاء الاحترافية وصف الخطر المهم حسب عبارة إدوارد سعيد، لا يهدف إلى التهويل والمبالغة، بقدر ما يهدف إلى الكشف عن مدى تفشي هذه الظاهرة، وسرعة انتشارها في أوساط المثقفين، وما تلحقه من تأثير عليهم في قلب الميول، وتحوير الأهداف، وتغير الطموحات، وامتصاص روح الشجاعة والمثابرة والمبادرة. وهذا الخطر يكاد يتهدد كل من يصدق عليهم وصف المثقفين، مهما كانت دياناتهم ومذاهبهم، قومياتهم وأعراقهم، لغاتهم وألسنتهم، بيئاتهم ومجتمعاتهم، فليس هناك مثقفون محميون من هذا الخطر، أو محصنون منه بتأثير من الدين أو العرق أو اللغة أو المجتمع. مع ذلك فإن تأثير هذا الخطر ليس حتميا على جميع المثقفين، فهناك من يكون محميا من هذا الخطر بوعيه وإرادته وبصيرته، وهناك من يكون واعيا بهذا الخطر على طول الخط، مذكرا به، ومنبها عليه، وناقدا له. كما أن هذا الخطر ليس ثابتا، ولا يظل ثابتا، بمعنى أن من يصاب بهذا الخطر لا يظل ثابتا عليه بصورة حتمية من دون تبديل أو تحويل، فهناك من يصاب به في فترة، ويتخلص منه في فترة أخرى، كما يتخلص الإنسان من الأمراض التي يصاب بها، وهناك من يتخلص منه من دون رجعة، إلى جانب من يتخلص منه ويرجع إليه، ذلك لأن المثقفين ليسوا سواء في مناعتهم الفكرية والأخلاقية.. ويبقى أن هذا الخطر هو من أكثر ما يغير صورة المثقف، ويسلبه أخص خاصية لديه، وهي رسالته الأخلاقية. [email protected] نقلا عن عكاظ