شعرت بحزن عميق وأنا أشاهد الأحوال الليبية أثناء الثورة وحتى وصلت إلى العاصمة طرابلس. كانت الدراما نفسها من قتل وتدمير تمزق النفس، وكان الادعاء والكذب رغم كل ما جرى فيه من الفضيحة، ما يجعلنا نتساءل: كيف عشنا مع هذا الغش طوال أربعة عقود؟ ولكن أكثر ما أدمى القلب كانت حالة المدن والقرى الليبية، وحتى الحواضر الكبرى مثل بنغازي والعاصمة طرابلس، فقد كان فوقهما وتحتهما غلالة من الفقر والفاقة والبؤس والخوف. وكل ذلك في بلد عدد سكانه خمسة ملايين نسمة، ينتجون 1.6 مليون برميل من النفط شبه النقي ويصدرونه كل يوم وسط أسعار خرافية. ماذا فعل الرجل بهذه الثروة، وماذا فعل بالشعب الليبي، وماذا فعل بسمعة العرب في العالم؟ بالتأكيد كان ممكنا أن تكون ليبيا مثلها مثل الدول العربية الأخرى المنتجة للنفط في دول مجلس التعاون الخليجي على اختلاف درجة تطورها، ولكنها أقامت بنية أساسية وحصلت شعوبها على نصيب من الثروة والتعليم والصحة في حواضر قوية وعفية. صحيح أن الثروة ليست كل شيء، وإن هناك ما هو أكثر تطلبه الشعوب العربية المنتجة للنفط وغير المنتجة له، ولكن الفارق هائل بين الحالة الليبية وأحوال باقي الدول العربية الأخرى حتى بما فيها تلك الكثيرة العدد والسكان مثل مصر والمغرب وتونس. ولكن الحالة الليبية لا ينبغي لها أن تصيبنا بالدهشة، بينما ننظر في أحوال مدينة بعد أخرى، فقد فجعنا نفس الفجيعة عندما جرى الغزو الأميركي للعراق، حيث لم يكن الحزن فادحا على احتلال بلد عربي فقط، وإنما أيضا على أحوال هذا البلد الذي لديه كل مقومات النفط والماء التي تجعله بلدا متقدما على بقية البلدان العربية قبل غيرها. ولكن لم يكن هناك شيء إلا الفقر والخواء وشعارات البعث وتماثيل الزعيم الذي كان يتحدث تماما مثل القذافي بصلافة مدهشة، داعيا شعبه الذي داس عليه بالنعال أن يهب في مواجهة العدوان الأجنبي. هل كان الأمر محض صدفة أن ليبيا والعراق جرى تحريرهما من الاستعمار المحلي عن طريق قوات متعددة الجنسية، أو حلف الأطلنطي، وكلاهما مثل الاستعمار القديم والجديد معا في نظر «الأمة» لسنوات وعقود؟ وهل هي محض صدفة أيضا أن ذات القصة بحذافيرها تجري في سوريا الآن، حيث إن المدن السورية ترزح تحت ذات التخلف والفقر والفاقة التي عاشته المدن العراقية والليبية؟ صحيح أن سوريا ليست بلدا نفطيا، أو هي بلد نفطي صغير، ولكن سوريا حصلت، وبسخاء كبير على معونات ومنح من الدول العربية القادرة كانت تكفي وزيادة في بلد آخر لكي تنقل البلد كله إلى مكانه متقدمة بين الدول. ما الذي يجمع بين صدام حسين، وبشار الأسد، ومعمر القذافي، وعلي عبد الله صالح، سوى آيديولوجية القومية العربية التي بدايتها الإيمان بحق الشعوب العربية في الحياة والوحدة، فإذا بدولهم هي التي تعرضت للاحتلال والفاقة والفقر؛ وأخيرا التفكك والحرب الأهلية وضياع أزمان طويلة تغيرت فيها الدنيا وانقلبت رأسا على عقب، وتقدمت دول كانت لا تختلف كثيرا عن دولنا هذه في سلم التنمية والتقدم. والطريف أن القذافي الذي طالب بالوحدة بين ليبيا وكل البلدان العربية، وعندما فشل ذهب إلى تشاد ومالطا، هو نفسه الذي انتهى في النهاية إلى التهديد بتمزيق ليبيا نفسها بحرب بين القبائل لا تبقي ولا تذر. هل هي محض صدفة أن الجماعة التي هي الأكثر حديثا عن الممانعة والمقاومة والمؤامرة الدولية كانت هي التي انتهت إلى تسليم بلادها إلى المحتل الأجنبي، أو – وهذا الأخطر - تمزيق هذه البلاد إلى شيع وجماعات متنافرة ومتناحرة على أساس من المذهب والعقيدة. العجيب أن العقيد القذافي، قائد الثورة الليبية، قدم نفسه في النهاية، وبصراحة يحسد عليها على أنه حامي الغرب من تنظيم القاعدة، وكذلك فعل بشار الأسد وبصراحة يحسد عليها أيضا، وكان صدام حسين هو الذي كان مستعدا أن يكون حائطا للصد ضد إيران والإرهاب الدولي فقام بغزو الكويت ولم يمض وقت طويل حتى تحررت الكويت وكان العراق نفسه هو الذي وقع تحت العدوان والغزو. كان هؤلاء جميعا مشتركين في دراما محزنة، ونكبة كبرى لبلادهم وشعوبهم؛ والأخطر أنهم كانوا يريدونها شائعة وغلابة في كل الأقطار العربية. فطالما آمن هؤلاء بالقومية العربية والوحدة العربية فإن هذا الإيمان أعطاهم «الرخصة» للتدخل في شؤون الدول العربية الأخرى وتحديد مصالحها الوطنية، وذلك بغرور قاتل وتعال وصلافة تمتزج بحماقة تاريخية تظهر ساعة هدم المعبد على رؤوس أصحابه فلم يعد العقيد القذافي – ولا كان صدام حسين، ولا بشار الأسد - على استعداد لسماع نصيحة عربية مخلصة بأن يتركوا مناصبهم وبلادهم في حالها تبدأ من جديد، وتعيش حياة بلا خوف وفقر وحرمان من الكرامة التي مزقتها أجهزة أمنية ومخابراتية لا عدد لها ولا حصر، والتي رغم كثرتها فإنها تكون أول المستسلمين، أول من يغادر الساحة، وأول من يعطي نصائح خاطئة لزعماء اكتشفوا فجأة أن العالم الذي أقاموه لا يزيد على قصر من رمال يتهاوى بمجرد أن يقرعه موج أو هبة ريح. ما يجمع هؤلاء جميعا أن نهايتهم صعبة، وبالمقارنة فإن زين العابدين بن علي الذي لم يكن قوميا عربيا بحال فقد ترك بعد شهر من الثورة البلاد التي تقدمت درجات، حتى ولو فشلت في الوصول إلى المبتغى الذي يريده الشعب التونسي، وبسقف من الفساد كان كافيا لكي يطاح به فذهب. حسني مبارك ترك السلطة كلها بعد 18 يوما من الثورة، ولكنه رفض الهرب أو اللجوء إلى العالم خارج مصر وبقي فيها قابلا المحاكمة والاستعداد لمواجهة من وجهوا له الاتهامات في ساحة قضاء عادل. ولكن جماعتنا من قادة القومية العربية، الفلاسفة والمنظرين وكتاب الروايات والأشعار فإن لهم رأيا آخر وهو أنه لا يجوز ترك السلطة إلا بعد أن يجعلوا عاليها أسفلها، وكما فعل نيرون وحرق روما فكان لا بد أن تحترق سوريا والعراق واليمن وليبيا عبر عملية ألم طويلة احتاجت 13 عاما في العراق، وربما سبعة شهور في ليبيا، ومن يعلم كم من الوقت سوف يستغرقه التخلص من علي عبد الله صالح في اليمن؛ أما بشار الأسد فإنه مصمم على ألا يترك البلاد إلا وقد صارت خرابا كاملا، فلا رسالة وصلت من الشعب، ولا نصيحة جاءت من الدول، وإنما لا يوجد إلا إصرار عجيب على السير في الطريق إلى آخره، حيث لا توجد إلا دماء نازفة، وأموال مهدرة، وبحر من الزمن ضاع على شعوب مقهورة نقلا عن الشرق الاوسط السعودية