بلاد العرب هي مهبط الديانات السماوية الثلاث. وبلاد العرب حباها الله بخيرات يحسدها عليها العالم أجمع. وبلاد العرب تقطنها شعوب تضرب جذورها في أعماق تاريخ الحضارة الإنسانية. وبلاد العرب سبقت الدنيا في استنباط الكتابة والعلوم وإرساء نظام حضاري مدني خرجت من رحمه ثقافات أخذت الإنسان من طور التخلف صوب طور التمدن والحضارة. وحين كانت الشعوب في البلاد العربية تبني الجامعات وتدرس الفلسفة والأدب والعلوم المختلفة، كان الغرب يئن من السلطة المطلقة لرجال الدين المسيحيين، حيث كانت الشعوب الغربية تتصور أن لله خليفة على الأرض في يده مفاتيح الأرض والسماء متمثلا في شخصية أعلاهم منصبا. وصار ما يراه رجل الدين أكثر قدسية من النص المقدس لدى البشر وأصبحت نظرة رجل الدين وأقواله حول الدنيا والآخرة هي المحك وهي القياس بدلا من المنطق وإحكام العقل الذي لولاه لما تميز البشر عن سائر المخلوقات. وهذه الفترة يطلق عليها المؤرخون الغربيون فترة القرون الوسطى وأحيانا الفترة المظلمة - مظلمة لأن المؤسسة الكنسية كانت سيدة التفسير وسيدة النص المقدس تختار منه ما تشاء وتنبذ ما تشاء. وكان همّ المؤسسة منصبا على أن الله منح مفاتيح الأرض والسماء لها، ولا سيما رجل الدين الأعلى فيها، وأن الخروج على طاعته وأوامره مهما كانت هو بمثابة الخروج على النص المقدس وإرادة الله ورسالته. وبينما كانت المؤسسة الكنسية في الغرب تبسط سلطانها وسطوتها على العباد مستندة إلى تفسيرها الخاص وانتقائية النص ومغادرة كل النصوص التي لا توائم توجهاتها، كان العرب في ازدهار فكري يمارسون المنطق ويرجحون العقل على الغيبية، وظهرت بينهم فرق فكرية متنورة مثل المعتزلة التي حتى اليوم يترجمها الكثير من المؤرخين الأجانب إلى free thinkers أي المفكرون الأحرار. لن أدخل في باب إن كان المعتزلة على حق في نظرتهم للنص المقدس لأن هذا قد يدخلنا في متاهات نحن في غنى عنها، ولكن ظهور فرق كهذه لدى العرب في وقت كانت المؤسسة الكنسية في الغرب تحرق الناس زرافات وهم أحياء فقط لرفضهم تفسير رجل الدين المناقض للعقل السليم، دليل على تطور الفكر العربي الحر ونظرته للحياة والإنسان وإنسانيته. واليوم يبدو أن الأمور تبدلت حيث قلما يقبل إنسان في الغرب أن يمنح عقله ومقدراته رجل دين مهما علا شأنه ومكانه ومنصبه، بينما نرى أن كثيرا من العرب لا يمنحون عقلهم ومقدراتهم لرجل الدين الذي يتكئ على النص المقدس لتبرير أعماله وأعمال السلطة التي يمثلها، بل نرى أن كثيرا من العرب يمنحون عقلهم ومقدراتهم أشخاصا محددين ويرونهم جزءا من رسالة سماوية. وهكذا ظهرت لدى العرب بجانب السلطة الدينية سلطة دنيوية تمنح نفسها الحق في حكم الناس وكأن الحكم هذا هبة من الله. وبعض الناس يرون في الحكم هذا كأنه جزء من رسالة السماء لدرجة أنهم على استعداد ليس فقط لتقديم رقابهم فداء له، بل تقديم رقاب أبناء قومهم ضحية له. وصار الحكم وأهله لدى العرب ليس فقط تجسيدا للوطنية والسيادة بل تجسيدا لرسالة السماء وذلك من خلال ما يقدمه لهم رجال الدين من تفاسير آنية تتلون بتلون الحكم وأصحابه. وابتلي الكثير من العرب بمرض عبودية الشخص. وأتذكر ما كانت تجتره قريحة الشعراء في العراق وما كانت تنسجه مقالات كتاب السلاطين وما كانت تهدر به المواعظ كل يوم جمعة من مديح وتبجيل لشخصية الزعيم العراقي السابق صدام حسين. وللحق علينا القول إن عبودية الشخصية ليست حالة عراقية فقط. إنها حالة شاذة وغريبة على العصر المتمدن هذا، ومع ذلك أظن أننا لا نخطئ القول إن للعرب قصب السبق فيها. وما يعكر صوف وحياة أي محب للعرب وقرآنهم وحضارتهم وثقافتهم ولسانهم ظهور أيقونات أو أصنام بشرية بينهم لا تخجل هي من تأليهها لنفسها ولا يمل البعض من إغداق القدسية عليها. هذه الأيقونات يجب تحطيمها وتكسيرها كما فعل المسلمون الأوائل عند فتحهم مكة حيث أنزلوا أصنام قريش وداسوا عليها بأقدامهم، مرددين: "لا إله إلا الله". ولكن تحطيم الصنم والأيقونة على أيدي العرب شيء وتحطيمهما بواسطة الأجنبي شيء آخر تماما. ولهذا كان فرحي عظيما عندما ثار العرب في تونس ومصر وحطموا الأنظمة السابقة بأنفسهم. ولكنني، وليسمح لي قرائي الكرام، لا أستطيع استساغة قيام بعض العرب ومؤسساتهم وحكوماتهم باستدعاء الأجانب من الغربيين لضرب بني قومهم مهما كانت الأسباب. والله والله والله الغرب لا يكن أي مودة للعرب ولا يضع إلا مصالحه ومصالح ربيبته إسرائيل في الحسبان في كل سياساته وتحركاته العسكرية والاقتصادية وغيرها نقلا عن الاقتصادية